2019.. احتفالية "الناتو" ورهانات تركيا وربيع عربي

2019.. احتفالية "الناتو" ورهانات تركيا وربيع عربي

16 ديسمبر 2019

جزائريون يتظاهرون في العاصمة تزامنتا مع ذكرى االثورة (1/11/2019/الأناضول)

+ الخط -
قد تكون سنة 2019 التي تقترب مغادرتها سنة التناقضات الصّارخة بامتياز. لكنّها، أيضا، سنة الوعي المتصاعد برهانات العالم الجديد، وهي المعادلة التي سترتكز عليها قراءة حصيلة عام شارف على الفراق، فاسحا المجال لعام سيكون مليئا، هو الآخر، بوصلةٍ من تلك التّناقضات التي باتت متلازمة في هذا العالم المتلاطمة أمواجه إلى درجة لا يمكن معها الإحاطة بمعطياته أتمّ الإحاطة.
تنتهي السنة الحالية بأهمّ حدث فيها، وهو احتفالية حلف شمال الأطلسي (الناتو) بذكرى تأسيسه السبعين، وكانت بامتياز ذكرى تستحق ّالقراءة بدلالتين، استراتيجية وسياسية/ اقتصادية، وكلاهما في عداد تناقضات عالم الفوضى الذي نعيشه الآن. وتشير الدّلالة الاستراتيجية إلى تحوّل العالم، حقيقة لا مجازا، إلى عالم متعدّد الأقطاب، وقد تكون الاحتفالية موعدا للإعلان عن انتهاء اللحظة الأميركية التي تمّت تسمية العالم بها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وزوال 
الثّنائية القطبية، نهاية العقد الثامن القرن الماضي. وتنبع أهمية الدّلالة من أن المنافسين الحاليين للحلف، ولأهمّ فاعل فيه، الولايات المتّحدة، هما بالأساس، روسيا والصين المتحالفتان على أكثر من صعيد، واللّتان اختارتا توقيت الاحتفالية، لإبراز قيمة شراكتهما وأبعادها، من خلال مناورات عسكرية واسعة أجرياها في مناطق النّزاع بين حلفاء لـ "الناتو" وروسيا، من ناحية، والصّين، من ناحية أخرى. ومن النّاحية السياسية/ الاقتصادية، فقد حوّل غياب العدو حلف الناتو إلى نهاية التّاريخ الحقيقية. ولهذا تمّ الاستنجاد بفكرة العداء للمنافسة الاقتصادية لإيجاد عدو، وكأن المعركة المستقبلية هي بين فصيلين: "الناتو" ضد الجيل الخامس للإنترنت، أو "الناتو" ضد الاقتصاديات الناشئة، حيث يحاول العالم الحر، كما يُسمّى تقسيم العالم إلى مناطق تليق بها الكرامة والتقدّم وعالم آخر رمادي، متخلّف، وتحت السيطرة، بل ملاذ لشرورٍ يراها لازمةً لاستمرار تجربته لأسلحته وتجارته فيها، على مر العقود والأعوام.
تركيا ومنحنى الصّعود
لا يمكن قراءة حصيلة العام الحالي من دون الانتباه إلى الخطوات الجبّارة التي استطاعت تركيا قطعها في إطار دورة الصعود في اللعبة الإقليمية الشرق أوسطية، بعد أن كانت في قاعدة المثلث الذي يضم، أيضا، إسرائيل وإيران، لتنتقل، الآن، إلى قمّة ذلك المثلّث بدون منازع، وبقدرات هائلة، استطاعت، معها، تحجيم الأخطار المحدقة بمشروع الصعود، الاستراتيجية منها والاقتصادية خصوصا. استلهم الرئيس التركي، رجب أردوغان، تصوّره للفعل الاستراتيجي من كتاب أحمد داود أوغلو، منظّر الصعود التركي الحقيقي، والحامل عنوان "العمق الاستراتيجي"، ومن أسسها ركيزتان: تصفير الأزمات والبيوت الخشبية. تشير الأولى إلى وجوب بناء أي فعل استراتيجي في دورة الصعود الإقليمي على تأثير بالأدوات الصلبة والناعمة للدولة التركية، بوصفها فاعلا مؤثرا في إقليم شديد التوتر، ويحتاج نقطة ارتكاز قوية. ولهذا سعت تركيا إلى إعادة بعث أداة العثمانية الجديدة، من خلال القضاء على صور العداء والخلافات مع دول العالم الإسلامي خصوصا. والمرتكز الثاني هو إقناع الشّركاء في لعبة الولاء الإقليمية للدّولة التُّركية بأن المكاسب جماعية، كما أنّ الخسائر الجماعية على شاكلة حريق يشبّ في بيت خشبي، فتطاول نيرانه باقي البيوت، وكأنّ أردوغان أراد تصوير الفعل الاستراتيجي على شكل بيوت خشبية مترابطة، يكون هو في المركز، وتدور في فلكه باقي الدُّول، ولكن في إطار لعبة رابح – رابح، وليس لعبة الرّابح الكامل في مقابل الخاسر الكامل، والتّي يلعبها فاعلون كثيرون في العلاقات الدولية، وفي مقدمها الولايات المُتّحدة أو الاتّحاد الأوروبي، باعتبارهما أقرب الجارين للإقليم والمؤثّرين في فعاليّاته، السّلمية والصّراعية.
وقد كانت لأردوغان سياسة أكثر فعالية في دورة الصعود تلك، من خلال توثيق العلاقات مع القوى العظمى، ومحاولة الاستفادة من أية فرصة لإبراز إمكاناته قوة يمكنها لعب أدوار في الإقليم، وخصوصا أن علاقاته كانت شديدة التوتر مع الاتحاد الأوروبي الذي أقفل أبوابه أمام طلب الانضمام إلى الاتحاد، ليقتنع الأتراك بأن قدرهم هو اللعب على أيّة فرصةٍ تتاح لهم 
لركوب موجة الصّعود الدّولية، سيما أنّ ذلك تمّ في إطارٍ تحسّنت فيه مؤشّرات الأداء الاقتصادي التُّركي، ليمنح صانعي سياساته أدوات التحرّك لفرض الوجود قوة إقليمية على أكثر من صعيد، وكانت الطاقة من أهمها، حيث سعت تركيا إلى أن تكون خط مرور أنابيب الإمداد الروسي للغاز في اتجاه أوروبا.
استطاع الرّئيس أردوغان محو ذكرى المحاولة الانقلابية التي اقتربت من قتل تجربته التّنموية، وأرسى خريطة طريق، سعى بها نحو تجسيد ما أراده من إتمام عملية الصعود، وفرض الوجود الدائم، في الشّرق الأوسط، بصفة القوة الإقليمية العظمى، بل إنّه أثار، مبادرا، منذ أعوام، عدة قضايا أثبت، من خلالها، تلك الاستراتيجية وعلى الأصعدة كافة، على غرار القضايا الخاصة بالطاقة، حماية الاقتصاد التركي والليرة التركية، إضافة إلى فرضه الندّية في إطار حلف الناتو، بعد الخلاف الذي تصاعد مع الرّئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والذي أدى إلى ترتيب اجتماعات، كان أردوغان فيها ممثلا لتركيا القوية، حقا لا مجازا.
الوعي الجديد لموجة ثانية للربيع العربي
ثارت في العالم العربي، هذا العام، موجة جديدة من الرّبيع العربي، ولكن بفكر المستفيد من الأخطاء والمعتبر من العثرات، والتي نرى آثارها في طول العالم العربي وعرضه، منذ عام 2011، بمآسٍ حوّلت بعض مشاريع التغيير إلى مشاريع هدم للدُّول، والتدخلات الإقليمية والدولية زادت من تفاقمها الثورات المضادة والاختراقات التي لعبت على أوتار التنوع المذهبي والعرقي واللغوي في المنطقة.
يمكن الإشارة إلى تلك الاستفادة من دروس الماضي من خلال استراتيجيات كل من الفاعلين، السلطة والمعارضة أو الشعب الثائر في أكثر من قُطر، حيث تفرض كل بيئة معطيات، وتفرز تمايزاتٍ تجعلها فريدة في التعامل مع الفعل الثوري الانتفاضي، حيث تحمل الموجة الثانية كلا منهما في إطارٍ من المطالبات تبقى هي نفسها أي الانعتاق من الاستبداد وبنماء منظومة كرامة وحقوق. وبالنسبة للفاعل الأساسي، هنا، وهو السلطة، فهي تغيرت، ولبست ثوب المصغي لمطالب التغيير، ولكن بأدواتٍ جديدة، بالنظر إلى انتشار الإعلام البديل الرقمي والافتراضي، واستحالة اللجوء، منذ اللحظة الأولى، إلى التّعنيف والتخوين والتّوقيفات العشوائية للمتظاهرين، فيما عدا الحالة العراقية التي تحمل تمايزات وخصوصيات يعرفها القاصي والداني.
لجأت السّلطة، في إطار الموجة الثانية للرّبيع العربي، إلى استراتيجية التدمير اللين للمعارضة، 
أي اللعب على الوقت، الصورة التمثيلية لتجارب الثورات المضادّة (اليمن، سورية) مع التذكير بتجارب مريرة للتغيير الفاشل، وفي مقدمتها التجربة الجزائرية في تسعينيات القرن الماضي. ولهذا نشاهد، منذ بداية العام، انتفاضاتٍ من دون ضحايا، كما حدث في الجزائر، مثلا. وهناك، من ناحية أخرى، لعبٌ على وتر التّجاذبات الجوارية والإقليمية لأي حراك، حيث تعمل السلطة، في أكثر من بلد، على التذكير والتشديد على تداخل إمكانات التدخل بأدوات داخلية، ولكن بتحريك يمكن أن يأتي من أقرب نقطة جوارية أو إقليمية، ولعل المشهد الليبي وتداخلات الاختراقات فيه، الصلبة واللينة، له رمزية تلعب لصالح السلطة في شيطنة الفعل الانتفاضي/ الثوري.
وهناك جانب ثالث مهم، وهو السعي الدائم إلى الخلط بين الديمقراطية إجرائية متعدّدة المتطلبات، تكون الانتخابات خاتمتها، وتلك التي يتبناها النظام، ويجعل من الانتخابات، بهندسته وترشيحاته، وعلى أساس قوانين تتبنّاها بُناه وتوازناته، الإجراء الوحيد والمخرج الأجدى للخروج من الانسداد، على غرار ما حدث في الجزائر في الرّئاسيات في 12 ديسمبر/ كانون الأول الحالي.
تجدر الإشارة، هنا، أيضا، إلى بقاء مبدأ إحداث التغيير داخل بنى النظام وتوازناته، وليس خارجه، على غرار ما هو ماثل في التجربتين، السودانية والجزائرية، لأنهما الأبرز في الموجة الثانية للربيع العربي، ليبقى الاستثناء الوحيد هو التجربة التونسية التي ما فتئت تفرز رمزيات ودروسا في النجاح والترسيخ للتغيير، في انتظار أن تُكلّل التّجربة بالنّجاح، إذا تحقّقت الثّمار 
الاقتصادية المرجوّة، لأنّها من متطلّبات إقناع الرّأي العام بجدوى ما حدث، وليشكل ذلك سدا منيعا ضد احتمال عودة الثّورة المضادة وأدواتها وتبعث رسالة أمل إلى باقي التّجارب، لتسير في ركبها مستقبلا. ومن جانب الحراك، بالنسبة للمنتفضين أو الشعب، لا تعدو المسألة محاولة جديدة لتغيير بوصلة التغيير، والبحث عن أدوات التدافع مع الأنظمة المتصلبة، داخليا، والمدعومة، إقليميا ودوليا، مع توخّي التّصادم الذي أتى على الموجة الأولى للرّبيع العربي، خصوصا أن ثمّة تغييرات طرأت على البنى الاجتماعية والديناميات المختلفة، وعلى الأصعدة كافة.
من التغيّرات المميزة للموجة الثانية، العمل خارج إطار الأيديولوجيا والأطر السياسية المعارضة، والاتّجاه نحو كيانات المجتمع المدني، والفرص التي يتيحها الإعلام البديل، لإنشاء هياكل تغييرية جديدة، بعيدة عن التي تآكلت، تواطأت مع الأنظمة، أو أصبحت غير ملائمة للبيئة التفاعلية/ الاتصالية المبتكرة بفعل ثورات الأدوات الرقمية، شبكات التواصل الاجتماعي والطاقات الشابة التي تكيّفت معها، وأصبحت المحرّكة للانتفاضة/ الثورة الجديدة. ولعلّ ما يمثّل هذا التغيّر المميز هو التّجربة الجزائرية التّي أصر الشّباب على أن يكونوا القائدين لها، فارضين خروجا منفصلا عن باقي الحراك الشعبي، في إطار يوم وفضاء خاصّين بهم (يخرج الطّلبة الجامعيون، كلّ أسبوع، في يوم الثلاثاء في حراك مميّز).
على الرغم من أن الحراك، في تجارب الموجة الثانية، يتسم بردات الفعل، وخصوصا في السودان، الجزائر ولبنان، إلاّ أنه سرعان ما يتكيف ويبدع في إرسال أجوبته التي تحتاج إلى أن تتفاعل مع الأحداث بواقعية، لأن المثاليات المفرطة شاهدنا كيف أدّت إلى فرض مشهد سياسي، تحت وقع ثقل الملّفات التّي أنتجتها السياسة العامة الفاسدة للأنظمة المتصلّبة. ويمكن، هنا، 
الحديث عن نماذج رئاسيات الجزائر، تحدّي إنشاء الحكومتين في كل لبنان والعراق أو وجوب تقاسم السلطة بين الحراك والعسكر في السودان، في إطار مرحلة انتقالية صعبة وحسّاسة.
وبشأن مآلات الموجة الثانية للربيع العربي، فهي تسير نحو إنتاج الإحباط نفسه، بعدم وجود مخارج ناجحة للتّغيير، وإن طورت أدوات جديدة للتعامل مع توازنات الأنظمة وبناها المستبدة، إلا أنّ التغيير الذي يجب أن يحدث يوجد على مستوى التنشئة واستدامة البقاء على تواصل مع العالم الافتراضي والرقمي الجديدين، من ناحية، ومنظومة الكرامة والحريات التي تتطلبهما، من ناحية أخرى. لم تبق للأنظمة أدوات تحكمية، إلا التي تستمدها من ترابط مصالح نخبة مع مصالح الرأسمالية العالمية، وامتدادات ذلك على المستويين الأمني والعسكري. وعلى الرغم من ذلك، المستقبل للابتكار ولتلك المنظومة التي بدأت تبرز مصاحبةً للبيئة الجديدة التي يصنعها العالم الافتراضي الرقمي والذكاء الاصطناعي.