موجات التردّد بين اليمين واليسار

موجات التردّد بين اليمين واليسار

15 ديسمبر 2019
+ الخط -
قبل أزيد من أسبوع، وقع حدث جلل في لندن، حيث طعن شاب محسوب على الفكر الإسلامي الجهادي مواطنين، مما تسبب في قتل اثنين من المارّة، قبل أن تطلق الشرطة النار عليه. في البداية، كانت الأسباب غير مفهومة، وإن كانت التقديرات المبدئية دائما أنها عملية إرهابية قام بها أحد المتطرفين المقتنعين بالفكر الجهادي، ثم تأكدت الأخبار، فمرتكب الجريمة عثمان خان (28 عامًا)، كان قد تم الإفراج عنه العام الماضي بإجراءات احترازية، بعد إدانته وآخرين في قضايا تتعلق بالإرهاب وتفجير بورصة لندن، حيث قضى ثماني سنوات في السجن، وأفرج عنه بعد قضاء المدة، شريطة ارتداء السوار الإلكتروني الذي يراقب تحركاته، ومن غير المعروف كيف استطاع الالتفاف حول تلك الوسيلة الاحترازية.
بالطبع، كانت هناك ردود فعل كثيرة في المجتمع البريطاني، أبرزها تأكيد رئيس الوزراء، بوريس جونسون، ضرورة مقترحاته بتشديد قوانين الهجرة والتنقل بين الحدود وإجراءاتهما، بجانب ضرورة تشديد القوانين التي تتيح مزيدا من الرقابة، بحجة مكافحة الإرهاب. وفي الولايات المتحدة، غرّد المحامي ديفيد ووهل (المحسوب على حملة ترشح دونالد ترامب فترة ثانية) إن مثل تلك الحوادث لن تحدث، إذا تم السماح للبريطانيين بحمل السلاح، أسوة بالأميركان.
وكما يحدث في معظم الحوادث المشابهة، أعلنت صفحات إلكترونية محسوبة على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) المسؤولية عن الحادثة، ثم يبدأ النقاش الحاد على الإنترنت بين مجموعات عديدة، فهناك مجموعات تنتمي للفكر الإسلامي، بمختلف تنوعاته، ومنهم من يكبر ويهلل ويحتفي بـ"البطل الشهيد" الذي قام بعملية شجاعة في عقر دار "عبّاد الصليب"، لينتقم لأرواح المسلمين الأبرياء الذين قتلهم الغرب على مَرّ قرون. وهناك من ينتمي للتيار الإسلامي أيضًا، وإن كان أقل حدة، فهو يدين العمليات الإرهابية، ولكنه يحاول إيجاد المبررات لهذا النوع من العمليات بأن 
مرتكبها ربما كان مضطهدا، وجاءت العملية رد فعل على تمييز سابق مورس ضده. أو لا يتحدث عن العملية نفسها ولكن يبدأ في سرد جرائم سابقة للاستعمار الغربي، أو للغزو الأميركي والبريطاني في سنوات سابقة. وفي المقابل أيضا، تدعم مجموعات عربية أخرى مكافئة في التطرف وتبارك ردود فعل اليمين الأوروبي، ويرون أنه لا مانع من طرد كل من هو عربي وإسلامي من أوروبا. وعلى الرغم من أن هؤلاء يعيشون في البلدان العربية، إلا أنهم يصنفون أنفسهم تنويريين أو علمانيين، فيهاجمون كل ما هو مرتبط بالحضارة الإسلامية أو العربية بصفته مصدر التخلف والشرور والدموية في العالم، ويهللون لكل ما هو غربي بصفته مصدر الخير والتقدم والحداثة.
يستغل اليمين الأوروبي هذه الحوادث، من أجل محاولة إبراز الخطاب المتعصب المليء بالكراهية والإقصاء لكل ما هو غير أوروبي، وتكون هناك خطب عصماء في الحملات الانتخابية، حيث يبرع اليمين في استغلال مثل تلك الحوادث، لتصدير خطابٍ معناه أن أوروبا للأوروبيين فقط، وأنه يجب الحفاظ على الهوية الأوروبية المسيحية من "المسلمين الهمج" وعاداتهم الشرقية. وتظهر النتائج في صناديق الانتخابات بتقدم اليمين في نسب الفوز، تختارهم الجماهير المذعورة من هجمات الإرهابيين أو موجات اللاجئين.
يتغذّى اليمين المتطرّف على بعضه بعضا، حتى لو كان متحاربا ومتضادّا، تصاعُد اليمين والتطرف الديني في الشرق الأوسط يخدم اليمين الأوروبي، والعكس صحيح، كذلك الحال لدى النظم السلطوية التي تستغل موجات الإرهاب، من أجل المزيد من التضييق والإجراءات القمعية، أو من أجل ابتزاز الدول الغربية والتهديد الدائم بفتح الحدود أمام موجات اللاجئين. العلاقة تبادلية بين قوى التطرّف وقوى القمع، اليمين الديني يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وكذلك اليمين السلطوي الذي يزعم أيضًا امتلاك الحقيقة وامتلاك الوطنية. لنظرية المؤامرة دور كبير في التعامل في مجتمعاتنا الشرقية، وهي أساس الخطاب الذي يتم حشد الجماهير به، حتى وإن كانت مؤامراتٍ وقصصا خيالية، والصراعات لدينا صفرية، لا مجال للحلول الوسط والتفاوضية.
وعلى الرغم من أنه لا مجال كبيرا لاستخدام نظريات المؤامرة في الغرب، بغرض خداع الجماهير كما يحدث لدينا في الشرق (باستثناء الرئيس الأميركي، ترامب، الذي يستخدم نظرية المؤامرة بكثرة)، يمكن ملاحظة أن اليمين المحافظ الأوروبي يحاول إثارة الخوف بغرض البقاء في السلطة، أو الفوز بالانتخابات، الخوف من المدّ الإسلامي وتلاشي الهوية الأوروبية المسيحية بعد عشرات السنين. ولكن بشكل عام تبقى نظريات التخويف والمبالغة في إطار المبالغة السياسية وأساليب الحشد السياسي، فالانتخابات هي الوسيلة الراسخة للتغيير لديهم. أما عندنا فالآخر هو الشر المطلق، والمختلف أو المعترض فهو خائن وعميل ليس له الحق في الحياة.
شاهدنا أخيرا ما فعلته إيران في مواجهة التظاهرات المشروعة لديها التي تطالب بعدم زيادة 
أسعار الوقود، حيث تم قتل العشرات بلا رحمة، بدعوى أنهم خونة وعملاء للغرب، ومتآمرون ضد الدين والوطن. إنها إيران التي هللت للربيع العربي، عندما اعتقد قادتها أنه سيجلب التطبيع بين العرب والفرس، وإنها إيران نفسها التي حاربت الثورات العربية بشدة، ودعمت السفاح بشار الأسد، عندما تطلّع الشعب السوري للحرية والديمقراطية والحكم الرشيد، وهي إيران نفسها التي دعمت الهبّة الشعبية في البحرين، أملا في إسقاط نظام حمد بن عيسى. وهي إيران نفسها التي تدعم الحوثيين بالمال والسلاح من أجل السيطرة على اليمن. وهي إيران نفسها التي بذلت الكثير لدعم ذراعها في لبنان، والإبقاء على النظام الطائفي في هذا البلد. وهي إيران التي تبذل الآن كل الوسائل، من أجل إفشال الحراك الشعبي في العراق الذي ينادي بالعدل ومحاربة الفساد.
لم يختلف أداء إيران ومزاعم المؤامرات والأصابع الخارجية عن أداء خصومها من السُّنّة في الوطن العربي، حديث المؤامرات الخارجية والأشرار في الغرب هو الخطاب الرسمي الذي يتم به تبرير الفشل الإداري والجمود السياسي، خطاب المؤامرة كان له شعبية كبيرة في مصر منذ سنوات، وها هو يستخدم الآن لتبرير قمع المتظاهرين ومطالبهم المشروعة في لبنان، ويتم استخدام تخوين المعارضين وتكفيرهم، لتبرير تلك الاغتيالات للنشطاء السياسيين في العراق هذه الأيام. وقبل ذلك، حضرت نظرية المؤامرة في حراكي السودان والجزائر، حيث دائما وأبدا يكون حديث السلطة عن الأصابع الخارجية ومؤامرات هدم الدولة، وليس الفشل الإداري أو الفساد.
ولم يختلف خطاب المؤامرة بين العرب وإسرائيل أيضا، فيبدو أن العدوى قد أصابت رئيس حكومة دولة الاحتلال، نتنياهو، من أصدقائه العرب، فقد لجأ أخيرا إلى حديث المؤامرة، ليحثّ الإسرائيليين على انتخابه، على الرغم من قضايا الفساد التي تتكشّف ضده كل يوم، والأحزاب اليمينية القريبة منه تتحدث دوما عن مؤامرات المجتمع المدني واليسار الإسرائيلي الذي يأتمر بأوامر من اليسار الأوروبي المعادي للسامية. ولذلك لا بد من تشديد الرقابة على التمويل الخارجي للمجتمع المدني الإسرائيلي، لوقف المؤامرات الخارجية الهادفة إلى هدم إسرائيل ومساعدة أعدائها.
قديما، كان الأهل يحاولون إخافة أطفالهم والسيطرة عليهم بروايات مرعبة عن "أمّنّا الغولة"،
 والرجل العجوز الذي هو عفريت متنكر، وكانت تلك القصص تلقى صدى في أطفال الأجيال القديمة، وترسّخ سيطرة الكبار على أطفالهم، فالإنسان عدو ما يجهل، والإنسان البدائي يميل إلى تصديق الخرافة، ولكن إلى متى ستستمر قصص المؤامرات والأصابع الخارجية التي تبرع حكوماتنا في نسجها من أجل الالتفاف على مطالب الإصلاح.
لا ترى بعض الكتابات أي ضرورة للهلع من صعود اليمين والسلطويات في العالم، فهي قد تكون موجاتٍ متوالية في العالم الذي يتجه يسارا عدة سنوات، حتى يبدأ الفشل في حل المشكلات الاقتصادية، فيبدأ الخطاب اليميني والشعبي في الصعود، وإيجاد أنصار من أجل البحث عن مخرج للإنقاذ، ثم يفيق العالم على عدة كوارث، بسبب اليمين والشعبوية وسياسات الانكفاء والانعزال ومعاداة الآخر، فيتجه يسارا أو ليبرالية اجتماعية مرة أخرى، وهكذا تستمر الحلقة المفرغة إلى ما لا نهاية.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017