الديمقراطية وإسرائيل

الديمقراطية وإسرائيل

15 ديسمبر 2019
+ الخط -
إثر مهاجمة شرذمة من أعداء التغيير في بيروت خيمة حوار أقامها الثائرون على نظام المحاصصة والفساد، بحجة خيانة المعتصمين للقضية الفلسطينية، ودعوتهم إلى التطبيع، تذكّرت واقعة حصلت معي قبل سنوات، وكان "بطلها" شبيها لهؤلاء، وأظنه كان بينهم. فبعد انطلاقة الثورة السورية، وقبل تحولها إلى مقتلة، كتب لي حقوقي عربي كان صديقاً رسالة يتبدّى اللطف في مقدمتها، للتعبير عن تعاطفه مع مطالب الجموع التي خرجت للإفصاح، بعد عقود سادت فيها ثقافة الخوف، عن مطالبها بالإصلاح وتغيير الحال التي يعيشون في كنفها منذ عقود في ظل مزيج من الرعب والنفاق. وبعد عدة أسطر لطيفة، انتقل هذا الجامعي الذي درس في أميركا، بمنحة من رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، إلى عزف لحن مختلف عما سبقه بدأه بعبارة "لكن". وهي العبارة التي تُنذر بالويلات والثبور عندما تتبع عبارات اللطف غالباً، فكثيرون ممن يودّون ان يدلوا برأيهم النقدي، يفتتحون مقالهم بالمديح لما تفوه به أو كتبه موضوع تعليقهم، ليصلوا إلى "لكن" هذه، ويُعملوا في المستهدف وفي حديثه وفي موقفه نقداً لا يضرّهم أبداً أن يصل إلى حد التخوين والإدانة. 
وفي عودة إلى "لكن" هذا الحقوقي الذي صار مدافعاً وظيفياً عن قتلة الحريري، فقد تلا إيراده 
عبارة "لكن" هذه استعراض لأبجديات الصراع العربي الإسرائيلي وكأنني به جاهلٌ، للوصول إلى زبدة الحديث، والقول بشكل شبه حرفي، أحاول أن أسترجعه بأمانة نسبية من الذاكرة المتعبة: "إن توجهت مظاهرات السوريين إلى الحدود مع إسرائيل (وليس فلسطين المحتلة على ما أذكر) فثق تماماً بأنني سأدعم ثورتهم". كان ردّي سريعاً بأن ثورة تبحث عن الكرامة والحرية لا يمكن لها إلا وأن تكون مع حرية وكرامة كل البشرية، وخصوصاً الفلسطينيين، ولكن لكي تكون قادرة على التعبير عن ذلك، وتحويله إلى برنامج عمل فعلي، بعيداً عن خطابات الديماغوجيا العرجاء المصابة بالإفلاس الأخلاقي، ولكي تدافع عن حمى الوطن الكبير وتصدّ أعداءه بعيداً عن الحروب المصطنعة التي لم تقم إلا لتعزيز سلطة المستبدّين، ولتتيح لهم فرص الإذعان والخيانة، فعليها أولاً أن تتحرّر من الاستبداد ومن الخوف، وأن تبني وطناً لكل مواطنيه.
لم يرقه هذا الكلام، وكانت رسالته هذه آخر ما تبادلناه من كلام محترم، فما تلاها من طرفه لم يرق إلى مستوى أبعد من التهديد والشتم المبطن. وما الذي يخشاه هذا الحقوقي الجامعي الذي يحتمي بآلة قمعية ربيبة لأنظمة فساد وإذلال إقليمية إن هو هدّد وتوعّد وخوّن ودان من يختلف معه في الرأي، خصوصاً إن كان هذا الاختلاف يُدين بصراحة وقاحة اصطفافاته المتناقضة مع كل المبادئ الإنسانية والأخلاقية المنوط به كحقوقي أن يكون في الصف الأول دفاعاً عنها.
أوضح مسار الثورات العربية، بمختلف موجاتها، بشكل لا لبس فيه أن إسرائيل حليفٌ مستتر أو معلن للمستبدّين العرب ومن في حكمهم، كما هي نصيرٌ عملي لكل القوى التي تدعم الثورات 
المضادة والانقلابات العسكرية على الحكومات الفتية المنتخبة. ويمكن لبعضهم أن يبرّر ذلك بالاستناد إلى أسطورة "ديمقراطية" إسرائيل في بحر من الديكتاتوريات العربية، وبأن إسرائيل لا تريد لهذه الأسطورة أن تزول بقيام ديمقراطياتٍ تحيط بها. وللوهلة الأولى، يبدو هذا الطرح منطقياً، لكنه لا يكفي لفهم هذا التشبّث اللوجستي والأمني، وحتى الدفاعي، بالأنظمة البالية المتجدّدة، والتي تُمعِن في الفساد والإفساد، وتدمير حيوية شعوبها وحصرها في خانة البحث عن لقمة العيش. بل يكاد يكون هذا التبرير ساذجاً أحياناً، فليس في الأمر حملة علاقات عامة للداعية "للديمقراطية الوحيدة" في المنطقة، فلم تبحث إسرائيل التي قامت على الاحتلال والاستيطان والتهجير وارتكاب المجازر يوماً عن تلميع صورتها التي يُلمّعها لها غربيون يبحثون عن التعويض عن جرائمهم بحق اليهود، أو رعاة إقليميون يهدّدون إسرائيل بالزوال مراراً وتكراراً، وبالتالي تحصل على تعاطف الدول "المتمدّنة"، أو زعماء عرب غير منتخبين يقمعون شعوبهم ويستولون على ثرواتها، بحجة مقارعة عدو لم يجرؤوا على مقارعته يوماً، ليس خوفاً من قوته، بل خوفاً على كراسيهم.
من البديهي أن تكون إسرائيل عدوة للديمقراطية في الدول العربية، وخصوصاً تلك المحيطة بها. فأن تعكس السياسات التي تتبناها هذه الدول يوماً الرغبة الحقيقية لشعوبها عبر ممارسات ديمقراطية وتعدّدية سياسية، ومجتمع مدني فاعل، ونقابات، يعني هذا أن تُعبّر، في النهاية، عن إرادة الشعوب التي تمثلها، فإضافة إلى المطالب الداخلية المرتبطة بالتنمية وبالشفافية وبحرية التعبير والتمثيل، تُجمع الشعوب العربية، ومن في حكمها، على أن قضية فلسطين المحتلة هي حجر أساسٍ في بناء وعيها التحرّري من الاستبداد ومن الاستعمار. وإن سعت هذه الشعوب، بداية، إلى التحرر من الاستبداد، فهي لن تتردد، بعد أن يعود الأمر لها، إلى مقارعة إسرائيل، ليس بالعنف ضرورةً، ولكن بالسياسة وبالتعبير وبالمواجهة الثقافية والاقتصادية والحضارية. لذلك، ستبقى إسرائيل ما حييت عدواً للديمقراطية في الدول العربية.