تاريخ لن يكتبه المنتصرون ولا المهزومون

تاريخ لن يكتبه المنتصرون ولا المهزومون

14 ديسمبر 2019

(إبراهيم الصلاحي)

+ الخط -
في سياق عمل صحافي يرتبط بتأريخ أحداث اغتيال محمود فهمي النقراشي، رئيس الوزراء المصري الأسبق، في العام 1948، التقيت أحد أبرز قيادات الإخوان المسلمين في مطلع عام حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، لأسأله عن قائد التنظيم الإخواني الخاص، عبد الرحمن السندي، فأجاب ببساطة: عبد الرحمن فُتن (!). 
أعدت مع زملائي السؤال مع طرح جوانب سياسية محدّدة، فكرر إجابته، وأضاف مفسّرا: "القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يُقلبها كدهو"، وأشار بإصبعيه. ثم حكى لنا قصة عن مشاهدته عبد الرحمن السندي في نهاية حياته وحيداً كسيراً، وكيف كان هذا نموذجاً على صدق أن "كدر الجماعة خيرٌ من صفو الفرد". بعد أشهر من هذه المقابلة، قُبض على القيادي البارز وما زال مسجوناً.
ما زال هذا النموذج في "التأريخ الإخواني" مستمراً، على الرغم من كل ما جلبه من وبال على الجماعة، وعلى مصر كلها، فالسياسة بما تحمله من بشريةٍ تحتمل الاختلاف والخطأ والتقديرات النسبية، والتحالفات والتجاذبات، تغيب تماماً لصالح نماذج بالغة الحدّية، تتحوّل فيها الجماعة إلى الإسلام نفسه، وتصبح كيانا ملائكيا كل أفعاله صائبة أو مبرّرة، أما مراجعاته فلا تزيد عن تمنّي لو تم سحق المخالفين مبكّراً، هؤلاء المخالفين الذين هم دائما خبثاء طامعون جهلة، مخدوعون على أفضل التقديرات، إن لم يكونوا معادين للإسلام عمداً. وتفسّر هذه الرؤية للكون اختيارات سياسية عديدة لم تتم لأسباب سياسية، كما تفسّر الهجمة التي يتعرّض لها كل من يقدّم أي طرح عقلاني لا عاطفي، ولو من صفٍّ أقرب إلى الإخوان المسلمين أنفسهم، كما شهدنا أخيرا ضد من طرحوا شهاداتهم.
كشف الشيخ عصام تليمة عن نصيحة الشيخ يوسف القرضاوي للجماعة بعدم الترشح للرئاسة في مصر في العام 2012، وتحدث الدكتور أمير بسام عن كواليس التلاعب داخل مجلس شورى الجماعة لقلب النتيجة الأولى التي كانت بالأغلبية لصالح عدم الترشّح، كما أدلى الدكتور سيف عبد الفتاح بتفاصيل مطولة ومهمة عن تهميش فريق الرئيس الراحل والرئيس نفسه لصالح قيادات الجماعة.
ولافتٌ هنا أن الجماعة لم تقدّم أي رواية تاريخية رسمية بديلة. في السابق، اعتمدت الجماعة على ما ينشر على موقع "إخوان ويكي"، ولم يجعل هذا الأمر أفضل، فالرواية المعتمدة تظل غير موثّقة، كذكر أن وثائق بريطانية تكشف اجتماعا حضره النقراشي والسفير البريطاني شهد المطالبة بحل الجماعة، ولكن واقعياً لم ير أحد أبداً وثيقةً بهذا المحتوى، بل بالعكس ثمّة وثائق تشير إلى استغلال بريطانيا الإخوان المسلمين، كاستخدام اسمهم في نسب بيانات لهم في اليمن ضد عبد الناصر. وكما يتم تفصيل الرواية التاريخية على مقاس الجماعة، يتم تفصيل المبادئ الأخلاقية على مقاسها أيضاً، فالشهادات مطعونٌ في نيات قائليها وأخلاقهم، لأنهم لم يحترموا "الرئيس الشهيد". وفي المقابل، لا مشكلة من الطعن في الخصوم من خارج الجماعة وداخلها، منذ قيل إن عبد الرحمن السندي "فُتن" ومروراً بالدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وحتى اليوم.
على الجانب الآخر، لدى باقي شركاء تاريخنا الحديث إشكالياتهم، فالجيش يتعامل مع كل شيء بوصفه سر أمن قومياً إلى أن يثبت العكس، ونادراً ما يثبت، وقانون "حرية تداول المعلومات" خرج ولم يعد.
وعلى الرغم من أن "التيار المدني" صفة فضفاضة، تشمل تنوعاً كبيراً في الحركات والأشخاص، ولا يمكن مساءلة من يتصف بها باعتباره كيانا تنظيميا له متحدثون وممثلون، إلا أنه باستثناء حلقات سجلها محمد البرادعي لتلفزيون العربي قبل ثلاثة أعوام، ومراجعات قدّمها أفراد خارج المناصب الحكومية أو المسؤوليات التنظيمية، مثل عمرو حمزاوي، فإننا بالتأكيد لم نسمع أي شهادات من رموزه بالحكم .. أين حازم الببلاوي، رئيس أول حكومة بعد "30 يونيو"؟ وأين وزراؤه؟
لعل ما حدث يكون دافعاً لإطلاق موجةٍ من الأعمال التوثيقة في الفترة المقبلة، تشمل كل من يملك شهادة من مختلف التيارات، وإذا كان مجال العمل السياسي مغلقاً، فإن العمل النظري متاح، وهو بنية أساسية لأي حراك قادم، على أن يكون هدفه التعلّم، لا المكايدة السياسية.