الانتخابات الفلسطينية المستحيلة

الانتخابات الفلسطينية المستحيلة

14 ديسمبر 2019
+ الخط -
لاقت نيّة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عبّاس، إصدار مرسوم رئاسي لإجراء انتخابات عامّة في فلسطين اهتمامًا لافتًا، يتجاوز ما حظي به مرسومه الرئاسي الأول لإجراء انتخابات عامة متزامنة بتاريخ 24 يناير/ كانون الثاني 2010، مع وعده بأنه لن يرشّح نفسه للرئاسة مجدّدًا، وكان مصيره الفشل في مهده، لصلابة الانقسام في حينها. وعلى اختلاف سياق المرسوم السابق والنيّة الحالية، وبتحييد الرغبة الشخصية في طي صفحة الانقسام الفلسطيني، فإن استشراف مستقبل الانتخابات بموضوعيّة يحتاج طرح أسئلة حرجة، فهل ستجري الانتخابات، أم أنها فصل من فصول المناورة السياسية المعتادة؟ وإن جرت، هل سيُحقق صندوق الاقتراع ما عجزت عنه مباحثات عقدٍ بين حركتي فتح وحماس؟ وهل ستتوفر الإرادة لدي جميع الأطراف بالتسليم بنتائجها والرضوخ لإرادة الشعب؟ أم أن الانتخابات هي المهمة المستحيلة؟ ولعلها كذلك. 
وقبل الغرق في بحث مدى ملاءمة الانتخابات خيارا لطي صفحة الانقسام، ومناقشة تبعات فشل الخطوة وانعكاسها على الحالة الفلسطينية، أو حتى البحث عن الشياطين في تفاصيل القضية لتصفيدها، فإن علينا قراءة الدوافع التي قادت أبو مازن، تحديدًا، إلى هذا الخيار، كونه صاحب المبادرة، ومن بيده زمام إيصالها إلى برّ الأمان، إضافة إلى تفحص حجم هذه الدوافع، وتقدير المدى الذي يمكّنها من دفع العملية الانتخابية.
وتركّز المقالة على سبر غور نيات حركة فتح ودوافعها، لأنها المتضرّر الأكبر المحتمل من هذه الانتخابات، وهو ما يجعل البحث المعمّق في موقف حركة حماس أقل أهمية، لأنها أبدت ليونةً
 غير متوقعّة، ولأنها ترى في هذه الانتخابات فرصة لإعادة إنتاج نفسها في النظام السياسي الفلسطيني، ما يعني تحسين تموضعها الداخلي وانعكاسه إيجابًا عليها إقليميًا ودوليًا، بالإضافة إلى أن بقية الفصائل والنخب المستقلة يرون في الانتخابات فُرصة لتكثيف حجم مشاركتهم السياسية، وفرصة لتجاوز مرحلة الانقسام.
ولقراءة ما بين السطور، واستشراف ما ستؤول إليه الأمور، فإّن قراءة المتغيرات وسلوك حركة فتح أدعى لدقّة التقدير من قراءة التصريحات المعلنة، فهل تنسجم دعوة أبو مازن إلى تجاوز الأزمة عبر الانتخابات مع سلوكه؟ حيث اتسم سلوك أبو مازن تجاه خصومه السياسيين، سواء حركة حماس، أو خصومه داخل حركة فتح، أو حتى أحزاب منظمة التحرير الفلسطينية التي لا يتطابق مواقفها معه، بتسخير الأدوات المتاحة لديه للتضييق ونزع مختلف أنواع الشرعيّة عنهم، إما عبر فصل المخالفين له في فتح وملاحقتهم، ورفع الغطاء التنظيمي عنهم، أو إيقاف الموازنات المالية لفصائل منظمة التحرير وتهميشهم، أو بقطع رواتب موظفي القطاع العام وعوائل الأسرى والشهداء والجرحى على شبهة مخالفتهم مواقفه، بالإضافة إلى مساعي نزع الشرعية الانتخابية عن حركة حماس، بحلّ المجلس التشريعي المعطل من دون توافق. ومن التجليّات الواضحة أيضًا لهذا السلوك استمراره في فرض عقوبات جماعيّة على مواطني قطاع غزّة، بما فيهم موظفي المنتمين لحركة فتح.
لم يصاحب إعلان الانتخابات أي خطوة من شأنها أن تكون بادرة حُسن نيّة من حركة فتح باتجاه حركة حماس، بل رفض أبو مازن رفع العقوبات عن قطاع غزّة، وأتبع إعلان نيّته طرح مجموعة شروط على الفصائل الفلسطينية ليقوم بإصدار المرسوم الرئاسي، وهي شروط مخالفة لمواقف مُعظم الفصائل، ويتجلّى فيها التراجع عمّا نصّ عليه المرسوم السابق، خصوصًا في مسألة موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، والتي تحولت من متزامنة إلى متتابعة، وهذه نقطة جوهريّة إذ تضع الفصائل مصير الانتخابات الرئاسية وديعة لدى أبو مازن. كما تخالف هذه الشروط نصّ اتفاق القاهرة الموقع في العام 2011 بإصراره على أن تكون الانتخابات على أساس مبدأ النسبية الكاملة، في حين نصّ الاتفاق على أن تمثل القوائم بنسبة 75% من المقاعد (قائمة انتخابية على مستوى الوطن)، و25% من المقاعد للدوائر( قوائم على مستوى الدوائر الانتخابية، وعددها 16 دائرة).
وقد طالبت الفصائل الفلسطينية بأن تكون الانتخابات نتاج حوار وطني جامع مقررّ للأمناء العامين للفصائل، لتذليل العقبات المحتملة أمامها، وتعزيز حالة التوافق الوطني حولها، إلا أن أبو مازن رفض هذا المطلب، واشترط أن يكون اللقاء بعد إصداره المرسوم، ما يعني نزع أي فائدة محتملة من اللقاء وتحوّله إلى لقاء علاقات عامة. وعلى الرغم من ذلك، اتخذت الفصائل موقفا وطنيا مسؤولا وتنازلت عن مطالبها، وقبلت بجميع شروط أبو مازن، واكتفت بالتعبير عن مطالبها من دون إلزام، كرغبتهم في عقد انتخابات للمجلس الوطني، وإجراء الانتخابات في القدس والضفة الغربية وٌطاع غزة، وأن تجري العملية الانتخابية على أساس التوافق الوطني، من دون تضييق على الحريات.
ولعل السعي خلف معرفة الدوافع سيعزز توضيح المسألة، حيث لا تشير الأحداث والمتغيرات 
داخل بيئة حركة فتح أو المشهد الفلسطيني إلى وجود ما يدفع أبو مازن نحو هذا الخيار، في حين أن هنالك مؤشرات على لعب العامل الخارجي دورًا مهمًا في بناء هذا التوجّه، حيث لم يذهب أبو مازن إلى هذا الخيار انطلاقّا من رغبة ذاتيّة لطي صفحة الانقسام وبناء أسس للشراكة السياسية، أو لترسيخ مبدأ الاستحقاق الدستوري والتداول السلمي على السلطة، وإنما استجابة لضغوط أوروبية. ألمانية ونرويجية خصوصا، حيث أتى هذا الإعلان بعد أيّام من زيارة لألمانيا قائدة قاطرة الاتحاد الأوروبي، ولمملكة النرويج المترئسة لجنة الدول المانحة للسلطة الفلسطينية، والتي يخشى أبو مازن في حال لم تجدّد السلطة شرعية مؤسساتها بأن توقف هذه الدول منح مساعداتها المالية للسلطة، في ظل أزمة مالية تُعاني منها السلطة.
هنالك دور للعامل الخارجي المتمثل في الاحتلال الإسرائيلي ودُول إقليمية، والولايات المتحدة وأوروبا، ولا يزال حاضرًا في الدفع نحو الانتخابات، وفي تعزيز فرص نجاحها أيضا. وفي حين يتفاوت دور هذه الدول، إلا أن هنالك توافقا عاما لدى أغلبها بوجوب أن تفرز هذه الانتخابات ممثّلين لا يُعارضون أي من الاتفاقيات الموقّعة مع السلطة، وقادرين على التكيّف مع المتطلبات الدولية والإقليمية، الأمر الذي أثبتت التجربة السابقة أن حركة حماس فشلت فيه. ولم يصدر بعد أي تصريح رسمي من الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الدول الأوروبية منفردة بإعلانهم خطأ موقفهم من انتخابات 2006، وقبولهم نتائج الانتخابات القادمة احترامًا لإرادة الشعب، ما يجعل تحقيق الانتخابات غايتها موضع شك، وأن ألغامًا في طريق الانتخابات لا يزال يضعها الغرب والاحتلال، لأن الانتخابات الجيّدة بالنسبة لهم هي ما تُقصي تيّار المقاومة، أو تحتويه في أسوأ الأحوال.
وقد علّمتنا التجربة في الخلاف الفلسطيني - الفلسطيني أن الأجواء السائدة وكثافة الجهود ليست بالضرورة انعكاسا لحقيقة النيات، وأن الشيطان كما يكمن في التفاصيل يكمن في النّيات، فهل 
يذهب أبو مازن إلى خيار الانتخابات، وهو يدرك أن مهمة إطاحته يسيرة؟ وأن لدى الشعب رغبة في التغيير وفي معاقبة من قادوا المرحلة؟ وهل يضع الدبّ في حجرته بإجراء انتخاباتٍ سيفقد فيها كرسّي الرئاسة، ويمنح قارب نجاة لكل مخالفيه، بما فيهم تيّار الأسير مروان البرغوثي، صاحب ثاني أعلى أصوات في مؤتمر "فتح" في العام 2016. ولعلّ هذه الانتخابات من فصول المناورة، ليرفع أبو مازن الحرج عن نفسه بعدم عقدها، ليقول للمانح الأوروبي إنّه يريد لكن التعطيل من الآخرين، ويُلقي باللوم على الفصائل، وهو ما فشل فيه، بعد استجابتهم اللافتة لشروطه، ولعل الاحتلال سيكون شمّاعته الأخيرة، لأن منع الانتخابات في القدس مصلحة إسرائيلية راجحة، وأن انتخابات من دون القدس لا يقبل بها أي وطني فلسطيني، وستكون سببًا مقنعًا لإحباط الانتخابات، وإلقاء اللوم على الاحتلال.
B4DA11F8-6058-4A99-BD4A-3FF8776CEE86
B4DA11F8-6058-4A99-BD4A-3FF8776CEE86
محمد حامد العيلة

كاتب فلسطيني، ومساعد باحث وطالب علوم سياسية وعلاقات دولية في معهد الدوحة للدراسات العليا.

محمد حامد العيلة