أيقونة الديمقراطية في قفص الاتهام

أيقونة الديمقراطية في قفص الاتهام

14 ديسمبر 2019

أونغ تشي أمام محكمة العدل الدولية بلاهاي (11/12/2019/فرانس برس)

+ الخط -
من دواعي الغرابة والاستهجان أن تنحسر نقاط الضوء عن عالمنا بصورة مطردة. ويتعلق الأمر هنا بتقلص عدد الرموز الملهمة والقيادات التاريخية التي يشتمل سجلها ومسيرتها السياسية والفكرية والوظيفية على مواقف منسجمة ومتماسكة، تناصر قضية العدالة والتحرّر والسلام الأهلي والاجتماعي والعالمي، وتمزج ما هو سياسي بما هو أخلاقي. ومن عجبٍ أن تقتصر خطابات قادة العالم النافذين في مواقع رسمية أو مستقلة واهتماماتهم على المدار المحلي الوطني الخاص ببلدانهم ومجتمعاتهم، بغير رسالةٍ تتخطى الحدود، وتنشغل بسلام كوكبنا وازدهاره. هذا فيما تنشر العولمة لواءها، وتتخطّى المسافات الفاصلة بين البلدان والشعوب والمجتمعات في القارات الست. خلافا لما كان عليه الحال قبل أربعة عقود، في ظل النزعة العالمية، وحيث كان المعسكران، الشرقي والغربي، الرأسمالي والاشتراكي، يتنافسان على استقطاب العالم عبر خطاباتٍ تتوجه إلى سائر أمم الأرض وشعوبها. وكلٌّ منهما يجتهد في إظهار وجه إيجابي له يلبي أشواق البشرية. وبين المعسكرين، كانت تزدهر ثقافة عدم الانحياز والتقريب بين المعسكرين وتظاهرات نزع الأسلحة النووية، وتخفيض مستوى الترسانات العسكرية، وأن لا تذهب الدول الصغيرة والنامية ضحية التنافس الضار بين المعسكرين. 
وفي تلك الآونة، ظهرت رموز نيلسون مانديلا وجمال عبد الناصر وبندرانيت نهرو وشارل ديغول وأولف بالمة وبي نظزير بوتو ومهاتير محمد، وظهرت منظمات، مثل العفو الدولية وأطباء بلا 
حدود. وأسماء بارزة على رأس الأمم المتحدة، مثل السويدي داغ همرشولد والبورمي يوثانت. بل إن بورما (ميانمار حاليا) أعطت اسما لامعا في زمن لاحق، وهي السيدة أونغ سان سو تشي، سليلة أسرة سياسية وتمزج بين ثقافتين، بريطانية ومحلية، كحال أنديرا غاندي. وقد نافحت هذه السيدة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلادها ضد الحكم العسكري، ما جعلها تتعرّض للإقامة الجبرية فترة امتدت 13 عاما، وعانت بصورة مبكّرة من اليتم لجهة الأب، حيث قضى والدها، الجنرال أون سان، اغتيالا عشية الاستقلال في العام 1947، وقد كان أبرز المكافحين والمفاوضين من أجل استقلال بلده عن الاستعمار البريطاني، فيما أصيب زوجها بالسرطان في المغترب البريطاني وقضى هناك، ولم تمض سنوات قليلة حتى قضى أحد ابنيها غرقاً في بركة سباحة خاصة بالمنزل.
طبع الشقاء والكفاح مسيرة هذه السيدة التي أثارت الإعجاب على مستوى عالمي، ما حمل جهات عديدة على منحها تقديرا ساميا مثل جائزة منظمة العفو الدولية، ومثل البرلمان الكندي الذي منحها لقب مواطنة فخرية، وباريس التي منحتها لقب مواطنة شرف، وجائزة غوانغجو الكورية الجنوبية لحقوق الإنسان التي ذهبت إليها، ومدينة أكسفورد البريطانية التي منحتها جائزة حرية المدينة. وقد تم سحب هذه الجوائز منها وتجريدها من هذه الألقاب الممنوحة لها. وخلال ذلك، اضطرت سلطات بلادها إلى الحد من الطابع العسكري للحكم، ومنحه صيغة مدنية وعسكرية معا (على غرار الحال في السودان بعد ثورة العام الجاري 2019)، وتثبيت إجراء انتخابات عامة، وقد فازت فيها عام 2016.
زعيمة حزب الرابطة الوطنية الديمقراطية، وإثر فوزها على رأس حزبها، وافق مجلس الشيوخ في ميانمار على مشروع قانون يسمح باستحداث منصب "مستشار الدولة"، لتشغله أونغ سان سو تشي، ولتتمتع بصلاحيات مماثلة للتي يتمتع بها رئيس الوزراء. ولمّا كانت ذات كاريزما شخصية وشعبية واسعة بسجل نضالي حافل، فإنها أضفت الكثير من إشعاعها الشخصي على المنصب، وباتت في مركز المرجع الوطني والسياسي الأول، وهو ما أنعش الآمال بأن ذلك البلد في جنوب شرق آسيا سائر نحو فصل جديد من التنمية والازدهار. ولكن المقادير ذهبت في اتجاه مغاير، فما هو إلا عام، حتى عصفت أحداث عنف مروّعة وواسعة النطاق، استهدفت مئات الآلاف في عشرات القرى من مقيمين من أصول آسيوية، وأكثرهم من بنغلادش، وكانوا ينتظرون منحهم حقوق المواطنة، وإذا بالسيدة أونغ سو تشي تتخذ موقفا غريباً يقوم على التهوين من شأن عمليات الاستئصال والتطهير، مع عزف معزوفة مكافحة الإرهاب، ومن غير أن تكون البلد قد شهدت وقائع إرهابية تذكر، باستثناء اشتباكاتٍ متفرّقة ومحدودة بين هؤلاء ورجال الشرطة. وبينما كانت أصداء عمليات القتل التي أودت بتسعة آلاف مدني على الأقل، وإحراق نحو 40 قرية مأهولة، تتردد في جنبات العالم، مصحوبة بالسخط على هذا التطور المريع، فقد تولت أيقونة الديمقراطية وحقوق الإنسان مهمة محامي الشيطان، بإنكار أن تكون الوقائع قد وقعت، على الرغم من رحيل مئات آلاف المدنيين المنكوبين إلى المجهول، قبل أن تستقبلهم بنغلادش. وعلى الرغم من تحقيقات واستقصاءات قامت بها الأمم المتحدة، وأثبتت وقوع هذه الجرائم الجماعية، وأمام ذلك، انبرت الجهات التي منحت التقدير العالي لسو تشي إلى سحب شهاداتها هذه بحق السيدة، كلفت منظمة التعاون الإسلامي غامبيا (دولة صغيرة في غرب أفريقيا) رفع الأمر قضائيا إلى محكمة العدل الدولية، باسم المنظمة التي تضم أزيد من 50 دولة.
وقد عقدت المحكمة أولى جلساتها يوم الثلاثاء الماضي في لاهاي، ومثلت أمامها السيدة المذكورة. وعلى الرغم من مضي عامين على الجرائم المثبتة والموثقة، فقد تمسّكت السيدة هناك بروايةٍ 
رسمية تقوم على الإنكار، وعلى التلاعب بالكلمات والوقائع، من قبيل "إن استخدام القوة تم بطريقة غير مناسبة، لكنه لا يرقى إلى مستوى التطهير العرقي"، وإن ثمّة حملة تجري لتشويه صورة بلدها. علما أن قيادات روحية متطرّفة في الأوساط البوذية شنت حملة مشينة وعلنية ضد الإسلام والمسلمين، وقدمت دعما معنويا ومادياً للسلطات في إجراءاتها الوحشية، وذلك في أول انحرافٍ عن العقائد البوذية النابذة للعنف، والمحبذة للتجسير بين الأديان ومعتنقيها.
ويبقى التساؤل المثار: لماذا فقدت أونغ سو تشي بوصلتها الأخلاقية، ولماذا أدارت ظهر المجن لتاريخها الشخصي، ولسجلها الحافل بالمآثر؟ في محاولة للإجابة، البادي أن السيدة قد أثملتها جملة أمور، وفقدت إثرها القدرة الفطرية على تمييز الصواب والانحياز إليه، ومنها الشعبية الواسعة التي حظيت بها، وزكّتها صناديق الاقتراع، فجنحت إلى الشعبوية والمزايدة على الاتجاهات الشعبية المتزمتة، ومنها الرغبة غير السليمة في التمتع بالسلطة، وتبنّي خطابها، والانزياح عن موقع الضحية إلى مركز الجلاد. ومنها أن هذه السيدة رغبت في التساوق مع خطابات الشوفينية الدينية والقومية التي تجتاح عالمنا، وتجد لها تجسيدا في السياسات الروسية والأميركية ودول ومجتمعات أخرى، ومنها تبنّي نظرة نمطية وشديدة السلبية تجاه الإسلام والمسلمين، بدل "تجشم عناء" التعرّف، بصورة موضوعية ونزيهة، على ثاني أكبر عقيدة توحيدية في عدد أتباعها، ومستوى انتشار وجودهم في عالمنا. إنها العودة إلى الغرائزية خياراً سهلاً، والنكوص عن التسامي العقلي والأخلاقي و"أعبائه".
محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.