في تونس التي نُحبّ

في تونس التي نُحبّ

13 ديسمبر 2019
+ الخط -
تمرّ السيارة بمحاذاة القصر الرئاسي في ضاحية قرطاج، لا عسس ولا حراس، وقد خلا المكان من رئيس أو سيدة أولى. رفض قيس سعيد الإقامة في القصر، وفضّل البقاء مع أهله في منزله الخاص بالقرب من منطقة المنيهلة. حرصتُ في زياراتي السابقة على المرور بذكرياتٍ فلسطينية حزينة تحتضنها أرض تونس، من مقر الرئيس الراحل ياسر عرفات، وبقايا الدمار الذي خلّفته غارات الطائرات الإسرائيلية على حمام الشط في فاتح أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1985، وصولاً إلى منزل الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) الذي اغتاله كوماندوز إسرائيلي في 16 إبريل/ نيسان 1988، مرورا بقرطاج، حيث أفاق الناس صباح يوم الجمعة 14 يناير/ كانون الثاني 1991 على فاجعة اغتيال عضوي اللجنة المركزية لحركة فتح، صلاح خلف (أبو إياد) وهايل عبد الحميد (أبو الهول) وفخري العمري (أبو محمد) أحد المساعدين المقرّبين لأبو إياد. 
في تونس ثورة الياسمين، أماكن أخرى تشعّ بالأمل على الزائر السلام عليها. على جنبات شارع الحبيب بورقيبة أزهرت ثورة الياسمين. وسط الشارع ينتصب عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، كأنه مقدّمة ماض تام يتجدّد في لحظات حاضرٍ مستمر، تخاله يوصي العابرين على ضفتي الشارع، أن أمهلوا الخطى فما يزال الطريق طويلاً، وما يزال العمران في مداميكه الأولى. على بعد خطوات قليلة من حضرة ابن خلدون، يصهل خيل الحبيب بورقيبة، أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال. يُخبرني مضيفي أن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي كان يخاف حتى من تمثال بورقيبة. لذلك أمر بإزالته من وسط العاصمة ونفيه إلى ضاحية حلق الواد، وإقامة برج ساعة في مكانه، ولكن الثورة رمت بن علي إلى مزبلة التاريخ، وأعادت "أبا الاستقلال" إلى قلب العاصمة، من دون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
يحثّني مرافقي على المرور إلى الجانب الآخر من الشارع، ويُشير لي نحو شرفة مكتب المحامي والناشط الحقوقي والسجين السابق، عبد الناصر لعويني، الذي بشّر التونسيين بهروب بن علي، صارخاً بهستيريا الفرح: "ما عاد تخافوا من حد .. اتحررنا .. الشعب التونسي حر .. بن علي هرب .. المجرم هرب .. السفاح هرب". سألت عن مقهى أحمد الحفناوي، صاحب مقولة "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية" فعلمت أن الرجل أصابه كدر وإحباط بفعل تأخر حصاد الثورة، فاضطر إلى بيع مقهاه، والاكتفاء بمراقبة مآلات الثورة ومخاضات الانتقال الديمقراطي.
ليس بعيداً من شارع الحبيب بورقيبة، يقع مقر الاتحاد العام التونسي للشغل، قبلة أبناء الطبقة الوسطى الذين كابدوا سنواتٍ عجافا جفّف فيها بن علي ونظامه ضرع البلاد، وأتى فيها مع الطرابلسية على يابس تونس قبل أخضرها. تحت شرفات المقر، وفي رحاب ساحته الصغيرة، تجمع مئاتٌ من حملة شهادة الدكتوراه، مطالبين بحقوقهم في الحياة والعمل. الشكوى من ظلم العهد البائد تصدح هنا ليتردّد صداها في كل زاوية من جامعة تونس، حيث تهالكت المباني، وقد بدت مثل طللٍ يبكيها العابرون. يخبرني أستاذ عن معاناة الجامعات التونسية راثيا حالها بسبب نقص الأموال وهجرة العقول والكفاءات إلى أستراليا وكندا والولايات المتحدة وأوروبا والخليج العربي.
أشياء كثيرة تغيرت منذ فتحت بيوت تونس نوافذها الزرقاء على سماء أخرى، وأحداث كثيرة مرّت على أهلها خلال السنوات الثماني المنصرمة، غير أن أهل تونس وناسها ما غيّروا من طيبتهم وحسن معشرهم، فكما يقول التونسي ابن خلدون "للبقاع تأثير على الطباع، فكلما كانت البقعة من الأرض نديّة مزهرة أثرت على طبع ساكنيها بالرقة"، كما أن "المناخ البارد والمعتدل يؤثر في الناس، فيولد فيهم حباً للعمل والنشاط وإقبالاً جميلاً على الحياة وأمزجة صافية".
يشكو التونسي ضيق اليد، لكنه لا يعدم سعة الإيمان. ينفض غمامة التشاؤم سريعاً، ليعيدك إلى يوم غصّ شارع الحبيب بورقيبة بحناجر ردّدت مع أبو القاسم الشابي: إذا الشّعبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ/ فـلا بـدّ أن يستجيب القدرْ.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.