تشكيل الحكومة في تونس وهذه المزايدات

تشكيل الحكومة في تونس وهذه المزايدات

13 ديسمبر 2019
+ الخط -
رشّحت حركة النهضة، الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية التونسية (أكتوبر/ تشرين الأول 2019) المهندس الزراعي، الحبييب الجملي، لرئاسة الحكومة، وكلّفه رئيس الجمهورية، قيس سعيد، بتشكيلها في غضون شهر قابل للتجديد مرّة واحدة. وأجرى الرجل جلسات تشاور مكثفة مع فاعلين في المجتمع المدني، فالتقى ممثلين عن الأحزاب، وعن المنظمات الأهلية، والهياكل المهنية والنقابية، والجمعيات الحقوقية، والطلابية. بغاية استطلاع وجهات نظر الفرقاء السياسيين والفاعلين المدنيين بشأن تشخيصهم الوضع في البلاد، واستجلاء مقترحاتهم، ومطالبهم، وتطلعاتهم، وتصوّراتهم لأولويات المرحلة المقبلة وسبل إدارة ما تحتمله من تحدّيات. والمراد البحث عن أرضية مشتركة لتشكيل حكومة ائتلافية، تجمع بين قوى مدنية وحزبيّة مناصرة للثورة ولمشروع الدمقرطة. ويواجه هذا الخيار كمّا هائلا من الأحكام المسبقة والمزايدات، من بينها التشكيك في استقلالية الجملي وكفاءته، وترويج رُهاب ممارسة السلطة خلال المرحلة المقبلة، والحكم على الحكومة المرتقبة بالفشل قبل أن ترى النور، والتلويح بضرورة المرور سريعا إلى ما تعرف بحكومة الرئيس. وهي مزايدات لا تسلم لأصحابها من عدّة جوانب. 
أكّد رئيس الحكومة المكلّف مرارا وقوفه على مسافة واحدة من الفرقاء السياسيين، وأنّ معايير 
اختيار أعضاء فريقه الحكومي هي الكفاءة، والنزاهة، ونظافة اليد، وخدمة الصالح العام. وعلى الرغم من ذلك يصرّ سياسيون على التشكيك في استقلاليته وكفاءته. وفي هذا السياق، نشرت اللجنة المركزية لحزب العمّال الشيوعي بيانا كتبت فيه "إنّ الحبيب الجملي قيادي من الصف الثاني في حركة النهضة.. وأنّه متحالف مع الرأسمالية المتوحّشة". ونعت زياد العذاري، المستقيل أخيرا من منصب الأمين العام لحركة النهضة، رئيس الحكومة المكلّف بـ "الهاوي، وقليل الخبرة، وغير المستقل، وأنّه قريب من الإسلاميين". وهذا الكلام لا يسلم لأصحابه من جهة أنّ العذاري نفسه صرّح إنّه لم يلتق الرّجل سابقا، ولا يعرف له نشاطا حزبيا، فلو كان قياديا في "النهضة" كان التقاه. والمرجّح أنّ الجملي شخصية تكنوقراطية مستقلّة. والقول إنّه قليل الخبرة يتعارض مع سيرته الذاتية التي تُفيد بأنّه خبر العمل في هياكل وزارة الفلاحة عشرين سنة، واشتغل في ملفات إدارة المؤسّسات، والتنمية، والجودة، وجمع بين العلوم الفلاحية والتصرّف. وتقلّد مسؤولية كاتب دولة في حكومة الترويكا (2011 ـ 2014). وصرّح بأنّه غير منخرط في حركة النهضة، وأنّه قادر أن يقول لها: "لا" متى اقتضى الأمر ذلك. ويبدو أنّ تشكيك بعضهم من داخل حركة النهضة وخارجها في استقلالية الرجل وخبرته راجع إلى اعتراضهم على تولّي شخصيةٍ تكنوقراطية قيادة الحكومة، فيما يُحتمل أن تحكم آخرين خلفيةٌ جهوية، غير معلَنة، مفادها احترازهم من تولّي كفاءة من جهة الوسط المهمّش (القيروان) زمام رئاسة الحكومة لأنّهم تعوّدوا منذ الاستقلال (1956) على إسناد هذا التكليف الجلل، في الغالب الأعمّ، لشخصيّة تنحدر من الساحل أو من البلْديّة (سكّان العاصمة وضواحيها). ومن غير البعيد أنّ غيرهم يرون في تولّي الجملي رئاسة الحكومة تهديدا لفرص فوزهم بحقيبة وزارية، خصوصا بعدما رشح من تسريبات مفادها بأنّه غير متحمّس لتوزير من وقع توزيرهم سابقا أو مَن هم في خطّة نائب في مجلس الشعب حاليّا. وتجد هذه التسريبات غير المؤكّدة صدًى إيجابيّا في الشارع التونسي، لأنّ النّاس سئموا السياسات المستهلكة والوجوه القديمة. ومن ثمّة، فأغلب الظنّ أنّ التشكيك في استقلالية الرجل ومتعلّقاتها من باب المزايدة، والبحث عن مصالح شخصيّة أو جهوية أو حزبيّة ضيّقة.
على صعيد آخر، تُبدي معظم الأحزاب الممثّلة في البرلمان عزوفا عن المشاركة في تشكيل الحكومة، وتروّج ما يُسمّى برُهاب السلطة، أي التخويف من إدارة تجربة الحكم في المرحلة المقبلة. وتعلّل ذلك بما تواجهه البلاد من تحدّياتٍ أمنية، وصعوباتٍ اقتصادية، ومطلبية اجتماعية عالية، ومن ارتفاع في نسب التضخّم، والتداين، والفقر، والبطالة. وترى موارد الدولة الداخلية والخارجية محدودة، وغير كافية لحلّ المعضلات الاقتصادية والاجتماعية. وتذهب إلى أنّ الاتحاد العام الشغل سيكون قوّة ضاغطة، ومعطّلة للإصلاحات الاقتصادية. والحال أنّ المنظمة الشغليّة العريقة بدت، على الأقلّ حاليا، أكثر حرصا من بعض الأحزاب على الدفع نحو تشكيل الحكومة الجديدة، ومدّ جسور التواصل مع رئيس الحكومة في هذا الخصوص. وذلك رغبة منها في ضمان سيرورة المرفق العام، وتحقيق الاستقرار، وضمان مصالح العمّال وعموم المواطنين. في المقابل، خيّرت بعض الأحزاب الجلوس على الرّبوة، ومتابعة مسار تشكيل الحكومة عن بعد. وقرنت أحزاب أخرى مشاركتها في الحكومة المرتقبة بتحقيق مطالب، عدّها مقرّبون من الجملي 
"تعجيزية" إلى حدّ ما، من قبيل مطالبة حزب التيار الديمقراطي بتمكينه من الإشراف على وزارات العدل، والداخلية، والإصلاح الإداري. وهي وزارات سياديّة، تمسّك الحبيب الجملي بتحييدها، حتّى لا يتمّ توظيفها لأغراض حزبيّة ضيّقة، أو استخدامها لتصفية حساباتٍ مع منافسين سياسيين. وفي سياق مثّصل، شرطت حركة الشعب مشاركتها في الحكومة بتقديم الجملي إعلانا سياسيا يتضمّن "تسييج الحكومة حزبيّا، وتحديد السياسات المالية والنقدية، ودور النظام البنكي، ورسم توجّه العلاقات الدولية، وفُرص التنمية". والحال أنّ هذه المطالب المشروعة ليست من اختصاص رئيس الحكومة وحده. بل يفترض أن تصاغ بطريقة تفاعلية مع الفاعلين المدنيين والسياسيين، والمشاركين في الحكومة، ولا تُفرض مسبقا. بل تتشكّل عبر التحاور، ومن خلال تشخيص الموارد المتاحة، والفرص الممكنة، واستشراف المستقبل، وصياغة خريطة طريق إستراتيجية، وخطة برامجية مشتركة لإدارة البلاد في المرحلة المقبلة.
واللافت أنّ بعض الأحزاب لم تقف عند ترويج رهاب ممارسة السلطة، بل تجاوزت ذلك إلى الحكم على الحكومة المنتظرة بالفشل قبل أن ترى النور. وفي هذا السياق، تقول رئيسة الحزب الدستوري الحر، عبير موسى، إن "حكومة الجملي ستفشل، والتحالف مع الإخوان خط أحمر". وصرّح المنجي الرحوي (الجبهة الشعبية) إنّ من أولويات حزبه "إسقاط حكومة المحافظين المدعومة من حركة النهضة وحلفائها"، وعدّ زهير المغزاوي (حركة الشعب) الحكومة القادمة استمرارا للفشل، وأعلن محمد عبّو (التيار الديمقراطي) أنّ حزبه "لن يُشارك في الحكومة ولن يصوّت لها". وفي تقدير مراقبين، يعدّ نفور أحزاب في البرلمان من المشاركة في مشروع الحكم هروبا إلى الأمام، ومظهرا من مظاهر الانفضاض من المسؤولية والتنكّر لتطلّعات الناخبين. والمفارقة أنّ الأحزاب المذكورة تصدر حكما مسبقا بالفشل على حكومة لم تتشكّل بعد، ولم تظهر برامجها، ولا معالمها، ولا أسماء المشاركين فيها. وجلّ تلك الأحزاب لا تقدّم بدائل برامجية مفصّلة لحلحلة مشكلات البلاد المتعدّدة. بل تتمترس خلف قوالب أيديولوجية، تزيد من تقسيم الاجتماع السياسي في تونس. ويبدو أنّها لا تفكّر جدّيا في الانتقال من معارضة التعطيل إلى معارضة التعديل، ومن قوّة الرّفض إلى قوّة الاقتراح. وأقصى ما توصّل إليه العقل السياسي المعارض في شأن تشكيل الحكومة التلويح بضرورة اللجوء إلى "حكومة الرئيس". والواقع أنّ التسريع باللجوء إلى رئيس الجمهورية ليختار رئيس حكومة آخر هو قفز على محطّة دستورية، تعطي الحزب الفائز صلاحية تشكيل حكومة في غضون ستين يوما، وهي مُهلة لم تنقضِ بعد. والتوجّه المتسرّع نحو الرّئيس ينمّ عن إفلاس نخب سياسية/ متحزّبة وعجزها عن تشكيل فريق حكومي يقود البلاد، ويُعيد هذا التوجّه إلى الأذهان صورة الحكم الرئاسوي/ الفرداني الذي عانى معظم التونسيين ويلات سطوته عقودا خلت.
أمام حالة الانسداد المشهودة، وفي حال استمرّ الفاعلون في الصّف الثوري في تشتّتهم وتعنّتهم، 
من غير البعيد أن ينصرف الحبيب الجملي إلى تشكيل حكومة تكنو/ سياسية، جلّ أعضائها من الخبراء، وذوي الكفاءة، تتكوّن أساسا من مستقلّين، وبعض المتحزّبين، وتكنوقراط مقرّبين من بعض الأحزاب (النهضة، قلب تونس، تحيا تونس، كتلة الإصلاح، كتلة المستقبل)، ومن المحتمل أن تصوّت لتمريرها كتلة ائتلاف الكرامة، وإلاّ فإنّ البلاد مقبلة على حلّ البرلمان وإعادة الانتخابات.
يمكن القول، ختاما، إنّ معظم مكوّنات الطبقة الحزبيّة في تونس لم تنجح في بلورة فكر ذاتي، نقدي، يتجاوز ممارساتها الأيديولوجية وحساباتها العصبية الكلاسيكية، فهي ما زالت محكومة بصراعات هووويّة قديمة، وتبدو ميّالةً إلى تقديم المصلحة الحزبيّة على الصالح العام. ولزومها هذا النهج يجعلها تواجه احتمال دفع البلاد نحو انتخاباتٍ تشريعيةٍ سابقة لأوانها قد تؤدّي إلى صعود الإسلاميين والثوريين الراديكاليين. كما تواجه احتمال اندلاع ثورة شبابية جديدة، تعصف بمكوّنات المشهد السياسي التقليدي برمّته، وتدفع إلى سدّة الحكم وجوها جديدة. وفي الحالين، ستكون للأمر تداعيات سياسية واقتصادية شتّى .

دلالات

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.