في وداع مناضلة

في وداع مناضلة

11 ديسمبر 2019

عطاف يوسف .. فلاحة ومثقفة ومناضلة فلسطينية

+ الخط -
كان أجدادنا يتخوّفون من شهر ديسمبر (كانون الأول)، وهو آخر أشهر العام، ويرون أنه لا يرحل إلا ومعه أحبة وأعزاء، فإذا ما رحل فهم يتنفّسون الصعداء، خصوصا إذا ما بقوا هم على قيد الحياة. والمعروف أن كبار السن البسطاء هم الأكثر تخوّفا من الموت، فكلما طالت أعمارهم زاد خوفهم، خصوصا حين يحل ديسمبر ومعه البرد وأمراض الشتاء. ويبدو أننا في هذا الزمن أصبحنا مثلهم، فلا يكاد يصل هذا الشهر الأخير حتى يبلغنا نبأ رحيل من هناك، أو نبأ رحيل في الجوار. 
لا أحد يستطيع أن يكتشف الرابط بين كثرة حالات الوفاة ونهاية العام، ولكنه في كل مرة يحدث، ولا ينتهي إلا برحيل أسماء نعرفها ونحبها، فقبل أيام، رحلت مناضلة فلسطينية ارتبط اسمها بوجداني وروحي، ولها مكانة في قلبي. وعلى الرغم من بعد المسافة بيننا، إلا أنني كنت دائما أتتبع أخبارها، فهي مناضلة بمعنى الكلمة، مناضلة فلسطينية صلبة صنديدة، ناضلت في بداية حياتها، وظلت تناضل بقلمها حتى النهاية.
رحلت المناضلة الفلسطينية عطاف يوسف. ويمكن اختصار حياتها بكلمات بسيطة، وهي أنها كانت فلاحةً عادية، ثم أصبحت مناضلة ومثقفة واعية وزوجة لمناضل. ولنا أن نتخيّل نقطة التحوّل في حياة فلاحة بسيطة، تركت قريتها، الجانية، بالقرب من مدينة رام الله، عاصمة فلسطين الثقافية، سعيا نحو هذه المدينة، لكي تكمل تعليمها. ومن رام الله بدأت الأسئلة ترد إلى عقلها البكر. وسرعان ما انخرطت في العمل السياسي. وعلى الرغم من توجهاتها السياسية المتأرجحة التي قد نختلف ونتفق معها، إلا أننا نبصم معها، وبأصابعنا العشرة، على حب فلسطين وقضيتها العادلة.
امرأة مناضلة، لا نستطيع أن نصف مسيرتها بأقل من ذلك، خصوصا حين كانت تحاول زرع قنبلة قابلة للانفجار عن بعد في أحد مواقف الحافلات، وكلها أمل في أن تنفجر في أكبر عدد من العسكريين الإسرائيليين. وبدلا من ذلك هناك خطأ ما قد وقع، ووقعت هي في الأسر، فأمضت زهرة شبابها وراء القضبان، وتخلى عنها خطيبها. وبعد خروجها المشروط من السجن بنفيها إلى الأردن، تزوجت من مناضل مثلها، ولكنه كان مهدّدا بالموت، وحسب إجماع الأطباء فقد كانت أمامه ثلاثة أشهر، فتحدّت الجميع وقرّرت الزواج منه. وتقول المناضلة، أم حسن، في مذكراتها، إنها يوم زواجها به، وكان بالمناسبة في شهر ديسمبر، كانت أمامه عشرة أيام فقط، حسب حسابات الأطباء. ولكنه، بحبها ورعايتها بعد إرادة الله، عاش تسع سنوات أنجبت خلالها ولديها، واللذين أصبحا كل حياتها بعد وفاة الزوج في المنفى، والذي أوصاها بأن تربي طفليهما في بلدهما ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
بعودة المناضلة والأرملة والأم عطاف يوسف إلى فلسطين، تحولت إلى النضال بالقلم، وأصبحت كاتبة معروفة بآرائها في الهم الفلسطيني. تعرّفت إليها من خلال عمودها النصف شهري في مطبوعة "صوت النساء"، والتي كانت تصدر عن طاقم شؤون المرأة في رام الله. وتعارفي بها كان يوم أن قرّرتُ العودة إلى الكتابة بعد انقطاع، وتقديم قلمي للقراء، فلم أجد منبرا أفضل من "صوت النساء" الموجه إلى الشريحة الأوسع من المجتمع. وهكذا تعرفت إليها من خلال الهاتف، وأدين لها بالفضل في الأخذ بيدي، وبأن أصبح اسمي وفكري في النور، وبدأت أتلمس طريقي كاتبة. وبدأ المثقفون الفلسطينيون في رام بالله يتساءلون من هي سما؟ وكانت الإجابة من خلال مقالاتي وهي: أم فلسطينية محاصرة في غزة.. علما أن بداياتي كانت قبل الحصار، ولكني كنت محاصرة بالعادات والتقاليد والقوانين الجائرة.
رحلة كفاحي شهدتها وساندتها المناضلة الراحلة عطاف يوسف، والتي أبعث السلام إلى روحها ونضالها، والتي تمنّيت أن ألتقي بها فعليا، ولكن خبر موتها فاجأني، لكي أتوقف أمام حكمة هذه الحياة التي تضم إلى قائمة المفقودين فيها كل يوم كثيرين تمنينا أن نخبرهم بأشياء جميلة، نحتفظ بها لهم في قلوبنا، ولكن الموت كان أسبق منا.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.