ثورة اللبنانيين أسقطت الأقنعة

ثورة اللبنانيين أسقطت الأقنعة

11 ديسمبر 2019
+ الخط -
أسبوعاً بعد أسبوع، ويوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، يتوالى سقوط أقنعة المنظومة السياسية المتداعية التي تحكم لبنان، بفعل إصرار المحتجين اللبنانيين من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية والانتماءات المناطقية والمذاهب والطوائف على مواصلة انتفاضتهم على الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة التي أوصلتهم إلى الانهيار الاقتصادي والمالي الذي بات يهدّد الاستقرار الاجتماعي الهش. 
أسقط المحتجون في الشارع حكومة سعد الحريري، وأحبطوا كل المحاولات التي يقوم بها أهل السلطة لتشكيل حكومة جديدة، انطلاقاً من معايير المحاصصة عينها، واستغباء عقول الجمهور اللبناني الذي بحت حناجره، وهو يطالب بحكومة إنقاذية من خارج أحزاب السلطة، مستقلة من ذوي الكفاءات، نظيفة الكف، مسؤولة، لديها صلاحيات خاصة قادرة على إخراج البلد من أزماته ومحاسبة سارقي المال العام.
مع اعتذار المهندس ورجل الأعمال، سمير الخطيب، عن تولي تأليف الحكومة بطلب من دار الفتوى للطائفة السنية، وإعلان الدار أن الحريري هو مرشح هذه الطائفة، سقط القناع الذي كان يتلطى وراءه سعد الحريري، وانكشفت اللغة المزدوجة له، وقد ادّعى أنه استقال استجابة لنبض الشارع، وبدلاً من العمل على تسمية مرشح آخر مستقل من خارج المنظومة السياسية الحاكمة. كما يطالب المحتجون ها نحن اليوم أمام أزمةٍ مستعصيةٍ ذات أبعاد دستورية خطيرة. ولا يشكل ترشيح دار الفتوى سعد الحريري ممثلا للطائفة السنية لرئاسة الحكومة انقضاضاً على مطالب المحتجين فحسب، بل خروجاً على الدستور، ومحاولةً مرفوضةً لفرض وصاية المؤسسات الروحية على قرارات وطنية خالصة، لا تدخل ضمن عمل هذه المؤسسات واهتماماتها في الأساس.
مع اعتذار سمير الخطيب، سقط قناع الطاقم السياسي العامل ضمن محيط رئيس الجمهورية 
اللبنانية، وبرز فشله المدوي في إدارة الأزمة الحكومية المستعصية. هذا الطاقم الذي يترأسه وزير الخارجية، جبران باسيل، اعتمد، منذ بداية الأزمة، الحكومية أسلوب المكابرة والانفصال عن الواقع، ورفض الإصغاء إلى صوت الشارع، وأمل أن يؤدي مرور الوقت إلى إسكات أصوات المحتجين وإخماد انتفاضتهم، وراهن على تعبهم وعلى يأسهم الذي دفع بعضهم أخيرا إلى قتل نفسه احتجاجاً. لا يثير فشل أداء هذا الطاقم الغضب العارم فحسب، بل الخوف والقلق لدى كل اللبنانيين الذين يرون أمام اعينهم الإفلاس السياسي المطلق لهذه المجموعة المولجة مسؤولية إدارة حياتهم، والمؤتمنة على مصيرهم.
وبرز أكثر فأكثر الخلل الكبير في معالجة حزب الله الأزمة الحكومية الذي ترافق مع خلل في كيفية التعاطي مع حركة الاحتجاج الشعبي الذي برز من خلال تأرجح الحزب بين موقف التعاطف مع "وجع" المواطنين الأبرياء وموقف اتهامي تخويني لـ "راكبي" الموجة. من بين الأسباب الأساسية لهذا الخلل الاعتقاد الوطيد لدى حزب الله أن ما يجري يستهدفه سياسياً، ويسعى إلى إبعاده ونزع سلاحه.
مع تفاقم حركة الاحتجاج الشعبي، تحول الخوف على سلاح الحزب الذي نجح في إرساء معادلة ردع ناجعة ضد إسرائيل منذ 2006 إلى العائق الأساسي الذي يمنع حزب الله من التفكير بطريقة مختلفة وخلاقة في حلول الأزمة، تتجاوب مع طموحات المحتجين، وتتخيل نشوء سلطة سياسية جديدة مختلفة عن الحالية.
كيف يمكن لهذا التنظيم الثوري الذي رفع راية الدفاع عن المظلومين والمحرومين في لبنان ألا
 ينتبه فعلاً إلى عمق (وأحقية) التحرّك المطلبي الذي يحدث في لبنان منذ أكثر من 54 يوماً؟ ولماذا بدلاً من فتح النقاش مع المجموعات المحتجّة التي تحاور وتطرح بدائل، وتسعى إلى إيجاد حلول إنقاذية للأزمة، يصرّ الحزب على التمسّك بالطبقة السياسية التي كانت سبب الخراب الحاصل حالياً، ويعتبر الورقة الإصلاحية التي تقدّمت بها الحكومة المستقيلة العلاج المطلوب والحل للخروج من المأزق؟ وكيف يمكن أن يصدق عقلاء الحزب أن الفاسد والسارق يمكن أن يحارب هو نفسه الفساد ويحاكم السارقين؟
تتساءل أوساط مقرّبة من حزب الله: ما الذي يضمن ألا تسعى حكومة مستقلة لا يتمثل فيها حزب الله وغير خاضعة لوصايته السياسية المباشرة إلى طرح مسألة نزع سلاح حزب الله لاحقاً؟ كما يبرّرون رفضهم تشكيل حكومة مستقلين من دون تمثيل للقوى السياسية بأنها غير قادرة على الحصول على الأكثرية في المجلس النيابي اللبناني. ولكن الكل يعرف أنه إذا أراد الحزب حكومة مستقلين، فإنها ستقوم خلال أيام. ومعنى ذلك أن خوف حزب الله على سلاحه تحول إلى سيف مسلط على رقاب الناس، لمنعهم من إحداث التغيير السياسي الإنقاذي المطلوب؟ ومعنى ذلك أيضاَ أن الخوف على مصير سلاح الحزب هو الذي يمنع حاليا تنحّي طبقة الفاسدين من السياسيين، ويمنع قيام حكومة إنقاذية مستقلة. بذلك يكون حزب الله، بحجة الخوف على سلاحه، قد حكم على الشعب اللبناني بأن يكون ضحية من جديد لجشع الفاسدين من السياسيين الذين نهبوا المال العام؟
أسقطت الثورة الاجتماعية في لبنان أقنعة كثيرة، نحن في خضم سباقٍ بين أزمةٍ حكوميةٍ مستعصيةٍ أو الاستجابة لطلب المحتجين بحكومة مستقلة. العاقل هو من يقرأ اللحظة التاريخية التي أحدثها الاحتجاج، فلا يضيعها ولا يتخلف عن سيرورة التاريخ. لا يريد حزب الله أن يتذكّره التاريخ أنه وقف ضد إرادة شعبٍ انتفض على الفساد والاهتراء السياسي، وأنه سكت خوفاً على سلاحه عن الذين كانوا سبباً لكل المآسي التي يعانيها اللبنانيون اليوم.
رندة حيدر
رندة حيدر
رندة حيدر
كاتبة وصحافية لبنانية متخصصة في الشؤون الإسرائيلية
رندة حيدر