تطوير الاشتراكية الصينية

تطوير الاشتراكية الصينية

11 ديسمبر 2019

في مصنع قطع غيار سيارات في جيانغسو بالصين (27/6/2019/Getty)

+ الخط -
عُقدت في بكين، الشهر الفائت (نوفمبر/ تشرين الثاني 2019)، الجلسة الرابعة الكاملة للجنة المركزية التاسعة عشرة للحزب الشيوعي الصيني الحاكم، وقادها الرئيس الصيني، شي جين بينغ. وتركزت على تطوير مفاهيم "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، وهي التسمية الصينية لخطط الإصلاح والانفتاح التي بدأتها الصين في عام 1978، وحقّقت بفضلها نمواً اقتصادياً وحضارياً هائلاً يشهد به العالم كله. صحيح أن هذه الاشتراكية الصينية غادرت الصرامة الأيديولوجية التي عرفتها الصين في عهد ماو تسي تونغ منذ يومها الأول، وباتت معنيةً بالنتائج أولاً وأخيراً، بل إنها شهدت تعديلاتٍ وتغييراتٍ مستمرة على مدار العقود الأربعة التي جرى تطبيقها فيها، إلا أنها بقيت علامةً مميزةً في أداء الصين الاقتصادي، تدل على مدى براغماتية الحزب الشيوعي، منذ عهد الزعيم دينغ شياو بنغ، وصولاً إلى الرئيس الحالي بينغ. 
ليس هناك تعريف معلن لهذه "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" التي وصفها الاجتماع المشار إليه بأنها "نظام علمي طوّره الحزب والشعب من خلال ممارسات واستكشافات طويلة الأمد". ولكن، من الممكن تعريفها بالأسس التالية:
1- السعي إلى الدمج بين أفضل ما لدى الاقتصاد الرأسمالي الحر من قيم، مثل الإقبال على 
العمل وحرية التفكير وحماية الإبداع ومكافأة المجتهدين، وأفضل ما في الاشتراكية من قيم، مثل العدالة وتكافؤ الفرص والسعي إلى استقرار المجتمع، والتعاون من أجل المصالح الوطنية العليا.
2 - التطبيق الحذر للنظريات الجديدة، من خلال تجريبها في مناطق محدودة أولاً، فإذا نجحت تم تعميمها، وإذا فشلت كانت آثارها محدودة.
3 - الاعتماد على الواقع مقياساً وحيداً لصحة الفكرة من عدمها، ومعياراً وحيداً للحقيقة.
4 - وضع ضوابط قانونية تمنع الفساد والرشوة والغش، وملاحقة الفساد بضراوة.
5 - تقديم مصلحة الشعب على الالتزام الحرفي بأيديولوجيا الحزب الحاكم، وإجراء مراجعاتٍ فكريةٍ مستمرةٍ لتلك الأيديولوجيا، بحيث تظل منسجمةً مع مصالح الشعب وحاجاته المستجدة.
6 - الإبقاء على الدور الاجتماعي للدولة، وخصوصا تجاه الشرائح والمناطق الفقيرة، باعتباره واجباً لا يقل أهميةً عن واجبها في توفير بيئة مناسبة للإنتاج والربح.
7 - الحفاظ على مكانة الدولة إطارا رقابيا ومرجعيا، ومنح الحرية الاقتصادية للأفراد داخل هذا الإطار.
8 - الانفتاح على العالم، والاستفادة من كل الخبرات والمنجزات الإنسانية، مع رعاية الإرث الثقافي المحلي والاعتزاز به.
9 - التحرّك من خلال "برنامج عمل"، محدّد الأهداف وواضح الخطوات، مع تقييم المنجزات والإخفاقات باستمرار، بما يضمن ثقة الشعب بإخلاص القيادة السياسية، ومن ثم تصرّفه كـ"أمة عاملة"، في ظل تكريس قيم الاعتزاز الوطني.
10 - الاستفادة من العبر التي توفرها النجاحات والإخفاقات لتجارب الماضي، واعتبار المراحل المتعاقبة في تاريخ الصين منجزاً تراكمياً يكمل بعضه بعضاً.
11 - التصدّي بحزم لما يُعتقد أنها محاولات لتخريب البرنامج النهضوي الوطني، وخصوصا من جهة التدخلات السياسية الخارجية، والاضطرابات الداخلية المدعومة خارجياً، (كما هو الحال في قضية هونغ كونغ هذه الأيام).
12- الاهتمام بالقوة العسكرية، وتطويرها باستمرار من نواحي السلاح والتنظيم والعقيدة، باعتبارها حامية المشروع النهضوي الوطني، ومصدراً لتعزيز المكانة الدولية للصين.
13- الاهتمام بتحقيق وحدة أراضي الصين، وعدم التصلّب إزاء الخطوات العملية الممكنة لتحقيق هذا الهدف الوطني، ولو انطوت على كمٍ كبير من الصيغ غير المعهودة كما هو الحال في مبدأ "دولة واحدة ونظامين" الذي يطبق حيال كل من هونغ كونغ ومكاو.
بالطبع، جعلت هذه الأسس الاشتراكية الصينية فضفاضة إلى حد كبير، لكنها ضمنت نجاح 
الحكومة المركزية في التحوّل بالصين من دولة فقيرة إلى غنية. وقد تطوّرت "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" خلال العقود الأربعة الماضية، لتتضمن خمسة عناصر رئيسية: البناء الاقتصادي، البناء السياسي، البناء الثقافي، البناء الاجتماعي للاشتراكية وبناء الحضارة الإيكولوجية (التي تتعلق بوحدة البشرية). وفي العام 2018، تم إدراج أفكار الرئيس شي جين بينغ في هذه النظرية، موزّعة على أربعة عشر بنداً تتمحور حول: ضمان قيادة الحزب كل نواحي العمل، الالتزام بتوجهٍ يسعى إلى خدمة الشعب، الاستمرار في تعميق الإصلاح الشامل، تبنّي رؤيةٍ جديدةٍ للتنمية، التأكد من أن الشعب هو من يدير أمور البلاد، ضمان أن تكون كل أبعاد الحوكمة قائمةً على القانون، تعزيز القيم الاشتراكية الجوهرية، تأمين مستويات المعيشة وتحسينها من خلال التنمية، ضمان التناغم بين الإنسان والطبيعة، تبنّي نهج شامل نحو الأمن الوطني، تعزيز قيادة الحزب المطلقة لقوات الشعب (أي الجيش)، تعزيز مبدأ "دولة واحدة ونظامان" (يسمح ببقاء نظام اقتصاد السوق في هونغ كونغ ومكاو على الرغم من عودتهما للسيادة الصينية) ودعم إعادة الوحدة الوطنية (استعادة جزيرة تايوان)، تعزيز بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية، وممارسة الحوكمة الكاملة والصارمة على الحزب.
بنود مضافة
وإلى جانب الحفاظ على النمو الاقتصادي، والسعي إلى توزيع أفضل لثمار التنمية على الشعب الصيني في مختلف المقاطعات، فإن أبرز البنود التي أضافها شي جين بينغ، بين هذه الأربعة عشرة، هي التي تتعلق بالسياسة الخارجية، وبناء الجيش الصيني، ومكافحة الفساد في الداخل. لقد بدأ شي عهده في العام 2013 بتشديد ملاحقة الفساد في الشركات الصينية الكبرى، وإصدار تعليماتٍ جديدةٍ تحدّ من إهدار أموال الدولة، وتقييد الصلاحيات التي يمكن أن تقود إلى الفساد، ما أدى إلى سجن مسؤولين كثيرين متورّطين في الفساد يومها. ثم أطلق مبادرته الدولية حول بناء الطريق والحزام، فتمكّن بفضلها من نسج علاقاتٍ جديدةٍ مع دول عديدة، عبر توقيع اتفاقياتٍ تتعلق أساساً بالبنى التحتية والمشاريع الاقتصادية المشتركة. وكان لافتاً سعيه إلى تطوير القوة العسكرية الصينية، وتأكيد قوة الصين العسكرية. وكان من دلائل ذلك أنه نظم أول استعراض عسكري منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، كذلك أعاد استعراض القوة العسكرية الصينية في احتفالات الذكرى السبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية في أكتوبر العام الحالي (2019).
وما لا يمكن إغفاله أيضاً تعمد اللجنة المركزية التأكيد على قيادة الحزب الشيوعي الدولة والشعب، إذ إنه يندرج في إطار الحرب التجارية مع الولايات المتحدة الأميركية، والإضرابات التي وقعت في هونغ كونغ التي تعتقد الصين أنها مدعومة أميركياً. أهم مؤشّر على ذلك أن الحكومة الصينية أخذت على محمل الجد التصريحات العدائية التي أطلقها وزير الخارجية 
الأميركي، مايك بومبيو، بالتزامن مع اجتماعات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، وقال فيها إن "الحكومة الصينية تبحث عن الأساليب التي تخلق تحدّيات للولايات المتحدة والعالم، وتستخدمها، ولم يعد من المعقول تجاهل الاختلافات الأساسية بين نظامينا، وتأثيرها في النظامين على الأمن القومي الأميركي"، مضيفاً: "إن الحكومة الشيوعية ليست هي الشعب الصيني".
وعلى الرغم من كل هذه القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية وعلاقات الصين الدولية، فإن التحدّي الأكثر أهمية للاشتراكية ذات الخصائص الصينية يتمثل اليوم في تحقيق التوازن في التنمية، والعدالة في توزيع ثمارها، وخصوصا بين شرق البلاد الغني وغربها الفقير نسبياً، أو بكلمات أخرى بين مدنها الرئيسية الواقعة على الساحل الشرقي وريفها الداخلي. والخطة الصينية المعلنة في هذا الشأن ترنو إلى تحسين أنظمة العمل في جميع مجالات إدارة الدولة، بالتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، في العام 2021، ثم إنجاز تحديث نظام الحوكمة في إدارة الدولة بحلول العام 2035، وصولاً إلى تحقيق كامل الأهداف التنموية والاقتصادية، بما فيها قيادة الاقتصاد العالمي، بحلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية في العام 2049.
قانون القيمة
كانت "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" قد تبنّت، منذ العام 1992، آليات واضحة تستعين باقتصاد السوق من أجل القفز بالاقتصاد الصيني إلى الأمام، إذ أعلن المؤتمر الرابع عشر للحزب يومها إنه "مع الحفاظ على السيطرة الحكومية الكلية على العمليات الاقتصادية، فإن الأنشطة الاقتصادية والتجارية يجب أن تخضع لقانون القيمة، وتستجيب للتغييرات التي يفرضها العرض والطلب في السوق. كما أن السوق هو الذي يتحكّم بتحديد الأسعار، ومن الضروري وجود المنافسة في السوق. والمنافسة تحفّز المؤسسات الإنتاجية والتسويقية، لبذل مزيد من النشاط، ما يؤدي إلى ازدهار الهيئات الناجحة وتطويرها. في الوقت نفسه، فإن اعتماد آليات السوق ستقود، في نهاية المطاف، إلى تصفية المؤسسات الفاشلة والخاسرة التي تشكل عبئاً على الاقتصاد الوطني، ولو كانت ملكاً للقطاع العام. على أن يتم فتح اقتصاد السوق الاشتراكي أمام شكلٍ جديدٍ من الملكية، هو الشركات المساهمة التي تتوزّع حصصها بين عدد كبير من شركات القطاع العام، أو الخاص".
ولم تكن نتيجة ذلك نمو اقتصاد الصين بنسب مرتفعة خلال السنوات التالية، زادت في معظمها عن 10%، بل أنها أدت إلى ارتفاع متوسط دخل الفرد الصيني بشكل كبير، ما حقق الرخاء لقطاعات واسعة من الشعب، إذ ارتفع متوسط الدخل في المدن بين منتصف التسعينيات ومنتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بمقدار ثلاثة أضعاف، وارتفع بمقدار ضعفين في الريف. ولكن السنوات التالية شهدت ظهور حالةٍ من الطبقية في المجتمع الصيني مع تزايد النمو الاقتصادي في المدن، إذ بينما ارتفع متوسط دخل الفرد الصيني من 5160 يواناً في عام 1997، إلى 25974 يواناً (أي 4033 دولاراً أميركياً) في عام 2017، فإنه ارتفع في المدن إلى 36396 يواناً مقابل 13432 يواناً في الريف، أي أن مستوى المعيشة في المدن يزيد بنحو ثلاثة أضعاف عما هو في الريف.
وفي عام 2005، كان دخل أغنى 10% من الصينيين أعلى بمقدار ثماني مرات من دخل أفقر 10% منهم، وباتت طبقة الأثرياء تمارس حياة من الرفاهية لا يعرفها السواد الأعظم من 
الصينيين، وهو أمرٌ لم يكن موجوداً في الصين قبل سياسة الإصلاح، فيما ظهر أن تبعات الإصلاح أُلقيت على الفقراء، ولم يشارك فيها كل الصينيين، ناهيك عن أن نفراً من هؤلاء الأثرياء كوّنوا ثرواتهم من خلال ممارسة الفساد والتحايل على القانون والتهرّب الضريبي واستغلال المناصب الحكومية. في ذلك الوقت، طرح الحزب الشيوعي الصيني خطته المسماة "المجتمع الاشتراكي المتناغم"، والتي نصت على ضرورة الوصول إلى مجتمع صيني لا تفصل بين أفراده فجوات وفروقٌ كبيرة، مع حلول العام 2020، بحيث تُعمّم فيه ثمار التنمية على الأمة الصينية.
ولمّا كان العام 2020 على الأبواب، والأمة الصينية لم تبلغ بعد حالة المجتمع المتناغم بشكل كامل، فقد كان طبيعياً أن تعود اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، في اجتماعها قبل أسابيع، إلى التركيز على هذه المسألة الداخلية الأساسية، جنباً إلى جنب مع القضايا الدولية التي تشغلها، سواء على شكل فرص مع نجاح خطوات مبادرة الحزام والطريق، أو على شكل تحدّياتٍ مع السياسة الأميركية الصدامية تجاه الصين.
ولكن، ما الذي يجعل فرص نجاح "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" في الوصول إلى مجتمع متناغم في الصين ممكنة هذه المرة، أكثر مما كانت عليه خلال العقدين السابقين؟ الواقع أن القيمة المضافة المهمة هذه الأيام في الصين تكمن في شخصية الرئيس شي جين بينغ نفسه، والكاريزما القيادية التي يتوفر عليها على غير ما كان عليه الحال، منذ ترك الزعيم دينغ السلطة في 1992. إذ بشخصيته القيادية التي يمسك بفضلها زمام السلطة بقوة، سيكون ممكناً للاشتراكية ذات الخصائص الصينية أن تطوّر منطقها البراغماتي، وتواصل تجاهل النقد الأيديولوجي الذي يوجّه لعملية الإصلاح الصينية، سواء من دعاة التشدّد العقائدي اليساري، أو من دعاة الأصولية الليبرالية في الخارج، كونها براغماتية تدار من حلقة ضيقة في قيادة الحزب، أبرز معالمها مما يزعج منافسي الصين هو التحكم بعملية إنتاج السلع صعوداً وهبوطاً.
ما يجدر التأكيد عليه هنا أن ما سيبقى حائلاً دون تحوّل تلك البراغماتية مدخلاً لإرباك عملية الإصلاح أو تقويضها، في عهد زعيم قوي ذي رؤية استراتيجية، مثل شي جين بينغ، هو أن هدفها الأسمى يتمثل في إسناد المشروع الوطني النهضوي الطموح، بمعنى أنها ليست براغماتية مطلوبة لذاتها (وسيلة وليست غاية)، همّها الثابت والدائم هو مواصلة النهوض بالبلاد وتقدّمها. وعلى هذا الأساس، تجري إدارة الدولة بمركزية شديدة في المجالات الحساسة التي تمس نهضة البلاد.

دلالات

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.