"الأطلسي" بين هويتين

"الأطلسي" بين هويتين

11 ديسمبر 2019
+ الخط -
جاء انعقاد تجمع قادة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وفق وصف المتحدث باسم الحلف، في لندن يومي 3 و4 ديسمبر/ كانون الأول الجاري في ظل متغيراتٍ داخليةٍ ودولية مقلقة: خلافات بين دول "الحلف" حول السياسات العسكرية والمالية؛ على خلفية عدم التزام دول أوروبية برصد نسبة 2% من ناتجها الوطني لموازنة الدفاع؛ وتباين في الرؤى السياسية حول دور الحلف وساحة عمله، انهيار ترتيبات ما بعد الحرب الباردة مع روسيا وتوتر العلاقة معها، ردّا على ما اعتبر نزعة عدوانية روسية، تصاعد قوة الصين العسكرية، توترات وأزمات في أكثر من منطقة، مع تشكّل توازن قوى جديد يحتم على الحلف إعادة النظر في إستراتيجيته العسكرية ووضع أخرى جديدة، بعد أن تآكلت القديمة بدخول دوله في حالة عجزٍ في مواجهة المشكلات الإقليمية والدولية الساخنة.
يعاني حلف الناتو من انقسام عمودي يشق صفوفه بين تيار تقوده الولايات المتحدة يتبنى رؤية هجومية، وآخر تقوده ألمانيا وفرنسا يتبنّى رؤية دفاعية ويبحث عن تفاهمات إقليمية ودولية لجسر الهوة بين الدول والمصالح المتباينة وحل المشكلات عبر سياسات التنمية والمبادرات الدبلوماسية التي تمنع النزاعات؛ وهو خلاف قديم وعميق، برز مع نهاية الحرب الباردة؛ حيث شهد العالم توجّهاً سياسياً دعا إلى تصفية بؤر التوتر والحروب وإقرار السلم العالمي؛ وسادت، لفترة وجيزة، أدبيات البيروسترويكا التي بشّر بها آخر رئيس سوفياتي: ميخائيل غورباتشوف، والتي تدعو إلى إقامة نظام دولي يعتمد "توازن المصالح" قاعدة له يعطي الأولوية للتعاون الدولي. ما يعني تراجع العامل العسكري وإعطاء الصدارة في العلاقات الدولية للعامليْن، السياسي والاقتصادي، وقد قاد هذا المناخ إلى بروز دعوات أوروبية إلى حل "الحلف" بعد أن غدا، بفعل نهاية الحرب الباردة وحل حلف وارسو وانهيار الاتحاد السوفياتي، بلا معنى أو هدف، وإلى قبول دعوة غورباتشوف إلى إقامة أوروبا واحدة من الأورال إلى الأطلسي، وإلى حل النزاعات الإقليمية بالطرق السلمية، وتقديم يد المساعدة للدول الفقيرة لإخراجها من حالة الانهيار الاقتصادي والصراعات العرقية والسياسية.
رفضت الولايات المتحدة هذا التوجه وقاومته بقوة، فالمحافظة على "توازن القوى" قاعدةً 
للعلاقات الدولية، وعلى حلف الناتو وتوسيعه وتعديل إستراتيجيته وساحة عمله، مصلحة أميركية؛ لذا عملت في القمة الخمسينية للحلف في واشنطن عام 1999 على إلزام الحلفاء بتنفيذ مقرّراته، والتي قضت بتحويله إلى مرجعيةٍ لقرار الحرب والسلم في العالم، فالوجود العسكري المباشر في عدد من الأقاليم حول العالم، ولا سيما الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ومحيط البحر الأسود، يتيح السيطرة على التفاعلات الإقليمية، السياسية والاقتصادية، والتحكّم بالخريطة الجيوستراتيجية؛ ما جعل هدف توسيع حلف شمال الأطلسي يحتل موقعاً مركزياً في هذه الخطة؛ وأطلقت لتحقيق ذلك مجموعة تكتيكات وفعاليات، مثل برنامج "الشراكة من أجل السلام" الذي ينطوي على تدريبات عسكرية مشتركة ضد الإرهاب مع دول من خارج الحلف، والذي يعتبر من أشكال التوسيع، ووضع نظام إنذار مبكر للكشف المبكر عن الأزمات، بحيث يتيح إدارة هذه الأزمات من دون الحاجة إلى التدخل، أو قبل التدخل العسكري، والحوار المتوسطي حول "المبادرة من أجل مكافحة الإرهاب" و"انتشار أسلحة الدمار الشامل" مع دول المتوسط (مصر والمغرب) وتعزيز التعاون العملي معها في مكافحة الإرهاب في إطار خطة "اكتيف انديفور"، كل هذا في إطار ما أسماها الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن في قمة ريغا عام 2007 "الشراكة الكونية"؛ ونشر منصات للصواريخ المضادة للصواريخ وملحقاتها (الرادارات ونظم الحماية والرقابة) في عدد من دول "الحلف" (بولندا، والتشيك، وتركيا) وأخرى متحرّكة تحملها ناقلات في دول البلطيق، ما يمنح الولايات المتحدة فرصة توجيه الضربة الأولى وشل قدرة روسيا على الرد؛ كجزء من مشروع أوسع مدى لإقامة درع صاروخي عالمي متكامل في أوروبا، من دون التشاور مع دول الحلف، لوضع دوله الأخرى أمام الأمر الواقع. وقد أجرى الحلف، بدفع أميركي عامي 2015 و2016، مناوراتٍ ضخمةً في شرق أوروبا، مناورة "أناكوندا" في بولندا، و"بالتوبس 16" في بحر الشمال ودول بحر البلطيق و"سابر سترايك 16" في دول البلطيق. ووضع عام 2017 مبادرة تحت اسم "مبادرة إعادة الطمأنينة الأوروبية" بميزانية تصل إلى 3.4 مليارات دولار مليار منها لإضافة لواء مدرعات مقاتل آخر، قوامه ما بين أربعة وخمسة آلاف فرد و 1.9 مليار دولار لعتاد قتالي إضافي. وقد ترافق ذلك مع إحراز تقدم كبير في مجال الدفاعات الإستراتيجية خلال العقود الأربعة الأخيرة، معظمها تم في مختبر "لورانس ليفرمور" الوطني في جامعة كاليفورنيا، سواء تعلق الأمر بصواريخ أرض جو البالستية المضادة أو بأسلحة شعاع الجسيمات أو بمركبات تتبع توجيه الرادار أو "الريلغان" (مطلق قذائف كهرومغناطيسي) ذي السرعة الفائقة أو بأشعة الليزر أو بمركبات قتل الحركية التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء أو غيرها من النظم المتطورة.
نجح الضغط الأميركي باستمرار حلف شمال الأطلسي ومد ساحة عمله وتوسيع عضويته بضم 
دول أوروبا الشرقية، حيث ضم أحد عشر من بلدانها، مقتربا من الحدود الروسية أكثر فأكثر، على الرغم من تحفظ روسيا على عمليات التوسّع لتعارضها مع التفاهم الذي تم بين الغرب والاتحاد السوفياتي خلال مفاوضات توحيد ألمانيا، لكن روسيا، مع التصريحات الرسمية الحادة التي ترفض توسّع "الحلف"، رضخت ووقعت معه في عام 1997، في عهد الرئيس بوريس يلتسين، "ميثاق باريس" الذي فتح الباب أمام انضمام بولندا والتشيك والمجر إلى صفوفه دفعة أولى، و"إعلان روما" في 2002، في فترة رئاسة فلاديمير بوتين الأولى، وجرى بموجبه تأسيس مجلس "روسيا - الأطلسي" ومواصلة الحلف ضم مزيد من دول شرق أوروبا. لقد تقبل القادة الروس عمليات التوسّع، حتى أن بوتين، عندما وصل إلى السلطة عام 2000، تحدّث عن احتمال انضمام روسيا ذاتها إلى الحلف.
أما دول التيار الثاني فسعت إلى تخفيف حدة الخلافات مع روسيا عبر الدخول في شراكات اقتصادية وتجارية ضخمة، استيراد النفط والغاز بكميات كبيرة منها، وتوريد الصناعات الدقيقة والإلكترونيات إليها، لإيجاد نوع من الاعتماد المتبادل، بحيث تتحول المنافع المتبادلة إلى وسائد لامتصاص التوترات والصراعات، لكنها لم تحقق النجاح في تحاشي التوتر والصراع في ضوء اجتماع عاملين:
الأول، تحوّل بوتين في ولايته الثالثة إلى المواجهة مع الولايات المتحدة وحلف الناتو؛ فقد رفع من نبرة التحدّي والتوسّع في عرض العضلات، واستخدام القوة ضد خصومه الداخليين والخارجيين، في جورجيا عام 2008 وإقامة جمهوريتين مستقلتين من أراضيها: أبخازيا وأوسيتا الجنوبية، وأوكرانيا عام 2014 وضم جزيرة القرم. وقد أغراه غياب الرد المباشر بالعمل على تحقيق نصرٍ على الغرب في أوكرانيا عبر دعم الانفصاليين وتشجيعهم على طلب الانفصال بإقامة جمهوريتين مستقلتين شرق البلاد، لوهانسك ودونيتسك. وفي سورية، عبر دعم النظام السوري بأسباب البقاء وتغطيته إعلاميا وحمايته سياسيا، والمبادرة لدعم حكومة المالكي عسكريا في مواجهتها مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والانخراط المباشر في الصراع السوري، بدءا من عام 2015، عن طريق إرسال قوات جوية لوقف تمدّد الفصائل المعارضة المسلحة وحماية النظام من السقوط، وإرسال مرتزقة روس إلى ليبيا للقتال إلى جانب اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وإلى أفريقيا الوسطى لدعم النظام هناك.
الثاني، السياسة التي اعتمدها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بربط تنفيذ المادة الخامسة في نظام الحلف، والتي تقضي بالدفاع عن أيّ دولةٍ من دوله تتعرّض لتهديد أو عدوان خارجي، بدفع ثمن الحماية؛ والضغط من أجل تنفيذ بنود الاتفاق على الإنفاق العسكري بنسبة 2% من الناتج الوطني. فالتصعيد الروسي، من جهة، والضغط الأميركي، من جهة ثانية، اضطر دول هذا التيار تحت ضغط التفوق النووي الروسي للخضوع لتوجهات التيار الأول، والقبول بتوجهاته العسكرية، وبتوسيع قوس المواجهة، ليشمل الصين التي اعتبرها البيان الختامي للاجتماع "عدوا محتملا"، فحلف شمال الأطلسي الذي ربط أمن الولايات المتحدة بأمن حلفائها الأوروبيين في مواجهة الاتحاد السوفياتي تحوّل، بفعل العامليْن المذكوريْن، إلى قيد على السياسة الأوروبية في التعاطي مع المشكلات الإقليمية والدولية، حدّ من حريتها واستقلاليتها، فالحاجة لردع التنمر الروسي يستدعي الاتكاء على القوة النووية الأميركية. وهذا يفرض وجود إجماع بين دول حلف شمال الأطلسي، وإظهار التضامن والعزم والاتفاق على خطة للمستقبل، ويمنح واشنطن فرصةً كبيرة للتحكّم بقرار الحلف وقرار أوروبا بالتالي.