ديمقراطية البقاء إلى الأبد

ديمقراطية البقاء إلى الأبد

02 ديسمبر 2019
+ الخط -
ناقش الكاتب، قبل أسبوعين في هذه الزاوية، دواعي الاحتجاجات التي تضرب دولا عربية منذ شهور. وفي معرض البحث عن إجابة لسؤال "لماذا يثورون؟"، اتضح أن ثمّة قواسم مشتركة جمعت بين شعوب تلك الدول. وأن الأوضاع التي تدفع المواطن إلى التظاهر والاعتراض تكاد تتطابق، من الجزائر إلى العراق ومن لبنان إلى السودان. مع التسليم بوجود اختلافاتٍ تمنح كل دولة خصوصية ونكهة مميزة لأحوالها السياسية والتفاعلات الجارية فيها.
وكما تتشابه أمراض الشعوب وأحوالها، تتشابه أيضاً أخطاء الحكم والحكام وأوصافهما. ومن المفارقات في أحوال العالم العربي، أن أكثر الدول العربية استقراراً وتماسكاً في أوضاعها الداخلية، وهي أكثر قليلاً من ثلث الدول العربية، لا تطبق الديمقراطية الغربية، فلا انتخابات رئاسية ولا تداول للسلطة العليا، كما هو حال دول مجلس التعاون الخليجي والأردن والمغرب، تلك الدول التي يحظى حكامها برضا شعبي ومبايعة مطلقة.
أما بقيتها، وهي الأكثرية (14 من 22 دولة عربية)، فتدّعي أنها دول ديمقراطية، وتستوفي إجراءاتها الشكلية من انتخابات تعددية ودساتير متقدمة وأحزاب متنافسة، فيما تعاني من اضطرابٍ مزمن في الأوضاع الداخلية. بين تكلس سياسي وجمود في المؤسسات والأشخاص، وتدهور اقتصادي متراكم، وتراجع في مؤشرات جودة الحياة بكل فروعها من التعليم والصحة إلى البنية التحتية والخدمات. فضلاً عن مؤشّرات سلبية بالغة الدلالة، مثل ارتفاع معدلات الانتحار والاكتئاب وتزايد نسب الطلاق والإدمان وتفشّي الأمراض المزمنة واتساع التناقضات الفئوية والاجتماعية وتجمّد الحراك الطبقي، فضلاً عن زيادة معدلات البطالة والركود الاقتصادي وهروب الاستثمارات وتراجع كفاءة قوة العمل.
تسود هذه المؤشرات معظم الدول العربية التي تدّعي أنها ديمقراطية، وتطبق التعدّدية والشفافية وترفع شعارات التنمية والحرية، وغيرها من مبادئ الديمقراطية الليبرالية وقواعدها بصيغتها الغربية. ودائماً يفتقد التطبيق العربي لهذه الجوانب الإجرائية للديمقراطية مضامينها المتعلقة بامتلاك الشعب قراره، والمشاركة في وضع السياسات واختيار الحكام والتعبير عن المطالب بحرية كاملة وشفافية حقيقية.
ودائماً أيضاً، لا يفي الحكام بوعود التنمية وتحسين الأحوال، أو مواجهة المؤامرات، أو تجاوز الأزمات والتحدّيات، ربما اعتماداً على صبر المواطن العربي وجلده وقدرته العالية على تحمّل الصعاب. ويغفل أولئك الحكام، أو ربما يُنسيهم طول البقاء في السلطة، أن لكل شيء حداً وحدوداً. فإذا ما ثارت الشعوب وخرجت رفضاً لأوضاع وسياسات ثابتة جامدة منذ عقود، يُفاجأ أهل السلطة ويصير الحكام في ذهول، ولا يراجع أيٌّ منهم نفسه خلال فترة بقائه الطويل في السلطة.
بينما بمرور الوقت تزداد دهشة المواطنين من استمرار التردّي وعدم تحسن الأحوال. ثم تتعمق تساؤلاتهم عن أسباب تمسّك هذا الحاكم أو ذاك بكرسي الحكم، بعد سنوات طويلة في السلطة لم يحقق شيئاً ذا قيمة للمواطن. حصّل فيها الكثير لنفسه وأسرته وحاشيته والمقرّبين منه والمنتفعين معه، مادياً وأدبياً. كما لو كان أولئك الحكام يستخفّون بعقول الشعوب، أو يستنكفون عن الخروج من السلطة تلبية لإرادة عوام الناس. إذ يتوهم بعض الحكام أنهم مبعوثو العناية الإلهية واختيار الرب لإنقاذ الشعب من التيه وانتشاله من العوز.
ولكي تكتمل حلقة السجايا والخصال المتشابهة حد الاستنساخ، لا تقتصر الأخطاء على النرجسية وتوهم الاصطفاء والدور الرسالي والتألُّه على الشعب، بل يذهب الغرور ببعضهم إلى حد العمل على توريث الحكم. وإذا كان ذلك مفهوماً ومقبولاً ومحل رضا مجتمعي عام في ذلك الثلث الاستثنائي المستقر من الدول العربية، فهو غير مفهوم في دول مثقلةٍ بمشكلاتٍ مزمنةٍ وأوضاع هيكلية شديدة السوء، فالمنطق الوحيد في توريث أعباء وإخفاقات متراكمة سنوات بل عقودا، هو الرغبة في تسليمها لمن يؤتمن على إخفائها وليس تخفيفها.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.