أبعد من أبقار وعجول إسرائيلية

أبعد من أبقار وعجول إسرائيلية

02 ديسمبر 2019

(نبيل عناني)

+ الخط -
الخبر أن الحكومة الفلسطينية قرّرت، أخيراً، وقف استيراد العجول والأبقار من السوق الإسرائيلية، فردّت حكومة الاحتلال بالتهديد بوقف إدخال المنتجات الزراعية الفلسطينية إلى الأسواق الإسرائيلية، ووقف السماح للسلطة الفلسطينية بإدخال بضائع ومنتجات تتبرّع بها دول أجنبية، ووقف تصدير زيت الزيتون ومحاصيل التمر من فلسطين إلى دول عربية. ولكن رئيس الحكومة الفلسطينية، محمد اشتية، يصرّ على القرار، على الرغم من ضغوطٍ حواليه ليتراجع، غير أنه، بحسب أوساطه، هدّد بالاستقالة إذا استمرّت هذه الضغوط، وقال إن حكومته ماضيةٌ في الانفكاك التدريجي من العلاقة الاستعمارية التي فرضها الاحتلال، ومن وجوه ذلك تعزيز المُنتج الوطني والانفتاح على العالم الخارجي، للاستغناء عن المنتجات الإسرائيلية. وأفاد وزير الزراعة الفلسطيني، رياض العطاري، بأن سلطات الاحتلال تعرقل إدخال أبقارٍ استوردتها السلطة من الخارج، وتحتجز شحنة أبقارٍ لتاجر فلسطيني، وصلت إلى ميناء إسرائيلي. وفي التفاصيل، يعترض تجار فلسطينيون على قرار اشتية، بسبب كلفة الاستيراد العالية، غير أن الحكومة أعلنت تمسّكها به، وبسعيها إلى إحلال بضائع ومنتجاتٍ عربيةٍ محل الإسرائيلية. ومع سيطرة إسرائيل على المعابر، وقدرتها على منع دخول أي مواشٍ بأي ذرائع، ومع صعوبات الاستغناء التام عن استيراد منتجاتٍ غذائيةٍ إسرائيلية، فإن توجّه الحكومة الفلسطينية في قراراتٍ من النوع الخاص بالعجول والأبقار يبقى صعب التحقق كاملاً، وإن كانت قد أطلقت خطةً من أجل الانفكاك الاقتصادي عن إسرائيل، وعقدها اتفاقياتٍ اقتصاديةً مع العراق والأردن ومصر.
مؤدّى هذا الخبر البالغ الأهمية، إذا ما نُظر في أبعاده الثقيلة القيمة، وإذا ما جرى التملّي في مشتملاته التي تتجاوز أبقاراً وعجولاً إسرائيلية، أنه يُنبئنا بأن لمقاومة المحتل الإسرائيلي صيغاً تتنوّع بمدى قدرات الفلسطيني الثريّة والمركّبة، سلطةً ومجتمعاً، على تثمير إمكاناته، على محدوديتها حيناً، واتّساعها أحياناً. ومما يخبرنا الإيجاز أعلاه، أن الغضب الإسرائيلي من قرار محمد اشتية يأخذ منحىً متوتراً، يكاد يصل إلى ما يشبه العقوبات إبّان الحروب. ما يوضح أن تعزيز القدرات الذاتية لاقتصادٍ فلسطيني، مع التحرّر التدريجي من اتفاق باريس السيّئ، ومع الرفض العملي لكل منتجٍ إسرائيلي، يلزم أن يكون أولويةً تتقدّم على غيرها، في الوسع أن تكون موضع إجماعٍ وطنيٍّ فلسطيني، لا مطارح فيه للمناكفات الفصائلية المقيتة. وفي البال إن سلام فياض، لمّا كان رئيساً للحكومة الفلسطينية، في عام 2011، قاد حملةً على بيع منتجات المستوطنات الإسرائيلية في الأسواق الفلسطينية، واشتغل بجدّيةٍ ظاهرةٍ على تحسين الأداء الحكومي على صعيد الخدمات، التعليم والصحة وغيرهما، واجتهد في شقّ طرقٍ، وفي الإنصات إلى الناس في قرىً وبلداتٍ فلسطينيةٍ تحتاج إلى ما هو ملحٌّ معيشياً وخدماتياً. في تلك الأثناء، وصفت صحفٌ عبرية سلام فياض بأنه متطرّف، واعتبره شيمون بيريز "بن غوريون فلسطينياً"، سيّما أن الرجل كان صاحب مشروع إقامة بنك مركزي وإصدار عملةٍ وسندات حكومية فلسطينية، ونشط في محاربة الفساد. إنه سلام فياض الذي لم يكن يجد حرجاً في الجهر برفضه أي مقاومةٍ مسلحةٍ ضد المحتلين، بل وحده من كل الشعب الفلسطيني، منذ فجر التاريخ،  بادر إلى التعزية بجنود إسرائيليين صرعهم هجوم فدائي فلسطيني.
عندما يتصدّى الرئيس محمود عباس، بروحٍ وطنيةٍ عالية، لمخطّطات رئيسٍ أخرق يمكث في البيت الأبيض اسمه ترامب، يرتعش من ذكر اسمِه كثيرون في عروشٍ عربية، وعندما يوقف محمد اشتية أكل الفلسطينيين لحوم أبقار مزارع المواشي الإسرائيلية وعجولها، فذلكما من بين كثيرٍ يدلّ على أن في وسع القيادة الفلسطينية أن تصنع الكثير، لتجد الشعب معها وقدّامها، سيما إذا انشغلت بتوسيع الجامع الوطني العام، والإفادة من مساحات المشتركات العريضة بين كل الشعب في أمكنته المتعدّدة. بكيفيةٍ مثل هذه، يحسُن استقبال خبر العجول والأبقار الإسرائيلية المرذولة.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.