صندوق الحرية الدولي

صندوق الحرية الدولي

10 نوفمبر 2019
+ الخط -
على غرار صندوق النقد الدولي، تمنّيت لو أن الغرب الديمقراطي أنشأ جهازًا مماثلًا يسمّيه صندوق الحرية الدولي، فلربما اقتنعتُ عندها أن هذا الغرب يسعى حقًّا إلى تعميم تجربته الديمقراطية على سائر أقطار المعمورة، كما يزعم. 
على أنني سأصدّق ظنّي بالغرب مرة واحدة، متخيّلًا أن هذا الصندوق رأى النور، وله نظام داخليّ صارم، من قبيل حظر القروض والمساعدات المالية عن الدول الاستبدادية، أو رفض إعادة جدولة ديونها، مثلًا، إذا لم تلتزم بوصفة الصندوق، وأهمها تحويل نظام الحكم في البلد المستهدف إلى نظام ديمقراطيّ حقيقيّ. ولا بأس لو جاء التحول على مراحل، ولكن مع ربط كل مرحلة بإنجاز مفصلي، يُحدث فرقًا واضحًا في الطريق نحو الحرية.
ولكن الظن سرعان ما يرتدّ خائبًا، لأن الغرب لو كان جادّا فعلًا بحمل رسالة الحرية، لجعل صندوق النقد ذاته صندوقًا للحرية، لا مجرّد وكيل عنه لاسترداد ديونه وفوائدها من أنظمةٍ تورّطت بالاقتراض منه، وأساءت صرف القروض، فلم تحقق أي تنمية تُذكر، بل لعل المعضلة الحقيقية أن هذه القروض لم تُنفق إلا على تمتين أركان الطغاة وإفشاء الفساد في الدول المقترضة، تحت سمع الصندوق وبصره وتغاضيه، وكأنه طرفٌ مشاركٌ في تكريس الأنظمة المستبدّة؛ لأن المستبدّين خير من يسهّل له تحقيق مصالحه بالهيمنة الاستعمارية غير المباشرة، بعد أن كفوه عناء الاحتلال العسكريّ المباشر.
يدفعني ذلك كله إلى الطعن والتشكيك بمرامي فكرة الحرية عند الغرب؛ إذ كيف يقبل امرؤ الحرية لنفسه ويرفضها ويمنعها، بل ويحاربها عند الآخرين، مهما زعم خلاف ذلك؟ فالمدافعون عن الحرية يحملون دوافع تكاد تكون أممية لتعميمها، على غرار ما فعله غيفارا، مثلًا، الذي انسجم مع قناعاته واستقال من منصبه الوزاري، ليستأنف رسالة الحرية التي نذر نفسه من أجلها في أدغال بوليفيا، ثم ليهلك دونها.
أما الأنظمة الغربية التي ثقبت آذاننا بدعوات الحرية، فنراها أول من يقف في وجه ثوراتنا ضد الطغيان، على غرار مواقفها المؤيدة لانقلاب عبد الفتاح السيسي على ثورة الربيع في بلاده، ودعم جنرال المستودعات الصدئ، خليفة حفتر، على الشرعية الليبية، ومساعدة حلف العدوان على اليمن الحزين، فضلًا عن حرف مسار الثورة السورية عن مساره، عبر جلب جماعات التطرّف والإرهاب من أصقاع العالم كله إلى الأراضي السورية، تحت شعار "محاربة النظام الكافر".
أليس من حقنا، إذن، التشكيك بدعوات الحرية الصادرة عن بلدان الغرب؟ ذلك أنها لو كانت منسجمةً مع دعواتها، حقًّا، لرفضت رفضًا قاطعًا انقلاب السيسي، ولتحرّك "صندوق الحرية الدولي" من فوره، معلنًا قطعه المساعدات عن النظام الانقلابي، وإدراج رموزه على قوائم الإرهاب؛ مثلًا، لأن الإرهابي الحقيقي هو من يذبح عنق الحرية، ويجهض آمال شعبه بها بعد طول انتظار، ولن يضير هذا الشعب إن أضيفت فاتورة قطع المساعدات الأجنبية عنه؛ لأنه لا يستفيد منها ولا يتمتّع بخيراتها أساسًا، ثم إنه على استعدادٍ لدفع فاتورة المنع إذا كانت ستخلّصه من طغاته هو الذي دفع أثمانًا أبهظ من ذلك بكثير في رحلة البحث عن حريته المختطفة منذ أمد لم يعد يذكره حتى أسلافه، غير أن الغرب الذي لم يفقد نزعة الهيمنة والسيطرة ونهب موارد العالم، هو أول من يغتبط كلما اغتصب الحكم طاغية عربيّ جديد؛ فهو الضامن لتسهيل هذه الهيمنة بثمنٍ أرخص كثيرًا من ثمن نياشينه.
ليس حرًّا من يقبل العبودية لغيره، وليس حرًّا من يبتغي سجن الحرية في جغرافيته فقط، ولا يسمح لها بالانسلال إلى جغرافيات الآخرين، هذا ما ينبغي أن يفهمه الغرب الذي لم يخرج من صندوق "حريته" بعد؟
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.