إيران في مواجهة الشعب العراقي

إيران في مواجهة الشعب العراقي

10 نوفمبر 2019
+ الخط -
نشهد في عيون الشباب الثائرين والثائرات العراقيين في المدن والساحات ولادة عراق جديد، يحاول كسر قيود الطائفية والتبعية، لينهض من ركام الحروب والاحتلال والتهميش. نرى بصيص أمل وإرادة وشجاعة مدهشة في وجه القناص وقنابل الغاز المسيلة للدموع، التي تحوّلت إلى سلاح تشويه وقتل مبتكر، تخترق الأدمغة، وكأنها تحاول القضاء على الفكر قبل الجسد.
صورة حية جميلة ومرعبة يعيشها العراق، فحماس الشباب والشابات وكل المحتجين واندفاعهم ظاهر، وهم معرّضون ليس لخطر الموت برصاص أجهزة الأمن فحسب، بل لاجتماع المصالح المتنافرة والمشتركة لقوى إقليمية ودولية، لا تريد اهتزازا لتوازن غريب عجيب بين النفوذين الإيراني والأميركي في هذا البلد، كيف لا وقد تشكل نظام ما بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وفقا لهذا التوازن الذي يختل أحيانا ويخضع لتدخلات دول الجوار العربي، ولكنه في النهاية يستمر على حساب الأغلبية العظمى من شعب العراق.
إن كانت تعبيرات الغضب الشعبي موجهة ضد إيران، بسبب دعم الأخيرة الأحزاب الرئيسة الحاكمة منذ سقوط بغداد في يد القوة الأميركية الغازية، إلا أن نفوذ الولايات المتحدة لم ينته بانسحاب هذه القوة عام 2011، فالحكومات العراقية ملزمة باتفاقية إطار تعاون استراتيجي مع الولايات المتحدة، فيما تسيطر شركات النفط الغربية على حقوق التنقيب في أهم حقول النفط العراقية، وتقود الشركتان الأميركيتان، هيلبورتن وإكسون، قطاع خدمات الصناعة النفطية، وكله بتعاون الحكومة والأحزاب العراقية الموالية لإيران وموافقتهما.
ليس سراً أن معظم الساسة العراقيين يسعون إلى نيل دعمين، أميركي وإيراني، من خلال سفارتي البلدين للمشاركة بالانتخابات. وهذه هي المعادلة التي أطالت عمر الحكومات الطائفية في العراق، ولم تمسّ بمصالح شركات النفط الغربية، بل قدّمت الحماية لها، إذ أصبحت صناعة النفط أهم
 مصدر لفساد مسؤولين عراقيين على المستويين، الأعلى والإدارات المحلية، وجاءت الانتفاضة لتهدّد معادلة قائمة، ما يجعلها هدفا لنزاع التنافس الأميركي الإيراني، ليس في العراق فحسب، بل على مستوى الإقليم. فمن ناحيةٍ، فوجئت إيران بانفجار الشعب ضد نفوذها الذي لا يراه المواطن الثائر سوى دعم للفساد والقمع، متوهمةً أن حزب الدعوة (الشيعي) وحلفاءه يحمون مصالح الشيعة باسم الطائفية، فما يحدث منذ العام 2003 هو تثبيت حكوماتٍ مبنيةٍ على القمع والاستغلال والفساد على حساب الأغلبية، وسقطت كذبة حماية الطائفة، بل انتهت إلى حماية طبقة متنفذة، تزداد ثراء وقسوة للحفاظ على ثرواتها وامتيازاتها بشكل فاقع، فإذا كان الجيل السابق قد صدق الخدعة فترة، فالجيل الشاب وجد نفسه مخنوقا مضطهدا، ويزداد فقرا، فثارت أحياء العراقيين الشيعة الكثيفة ومراكزها، مثل مدينة الصدر في بغداد، وكذا القاعدة الاجتماعية – السياسية، المفترضة في كربلاء والنجف والبصرة.
وقد جاء اشتعال الانتفاضة في كربلاء والنجف، مركزي المرجعيات الدينية (والسياسية) الشيعية، مؤشّراً على بدء انعتاق الطبقات المقهورة من سلطة هذه المرجعيات. وهذا يفسر تصريحات المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، اتهاماته الانتفاضة بأنها مؤامرة، في تدخل منه ليسحب شرعيتها وشرعية مطالبها، ولا ينفي ذلك أن سعي الولايات المتحدة إلى تقليص نفوذ إيران واحتوائها داخل العراق هدّد إيران. ولكن اتجاه إيران إلى شيطنة المحتجين، وعدم اعترافها بمسؤولية دعم حكومات فاسدة، تدوس على رؤوس العراقيين، متناسيةً تراث العراق السياسي والعلمي، هو ما تسبب بالانفجار في وجهها.
ترد هذه الخلفية هنا في محاولة لتقديم سياق الانتفاضة التي لم يشهد العراق نظيرا لها في تاريخه، إذ من الخطأ والظلم أن يحكم موقف المثقفين والأحزاب العربية مما يحدث بمقارباتٍ سياسيةٍ تبرّر، في نتيجتها، استمرار القمع الوحشي لمطالبات الشعب العراقي المحقة، فلا يمكن تأييد مطالب شعوب بالحرية والعدالة الاجتماعية وإنكارها على شعوبٍ أخرى، فالنظر إلى إيران قوة ردع لإسرائيل يجب أن لا يعمينا عن حقيقة دعمها حكومات تترأسها أحزاب موالية لها، جاءت إلى السلطة بالتوافق مع المحتل الأميركي، بل بالتعاون معه، فالمسؤولية تقع على إيران، إذ يثور العراقيون ضدها.
ولكن لا يبدو أن واشنطن مستعدة لإسقاط المعادلة القائمة، إلا إذا أصبحت الانتفاضة خطرا على مصالحها، وخصوصا النفطية، فالعراق يملك ثاني أكبر احتياطي من النفط بعد السعودية في العالم، والولايات المتحدة عادة تكون مستعدة للتخلي عن الحلفاء ومعاهداتها إذا لزم الأمر، ولكن التركيبة القائمة مفيدة لواشنطن، أقله حتى هذه اللحظة، والحكومات العراقية لم يكن يعنيها التحرّر الاقتصادي، بل أصبحت عائدات النفط رشاوى للمسؤولين تمكّنهم من تكديس الثروات وتسليح المليشيات والتحكّم على طريقة المافيات، فلا يهم هؤلاء كيف يتحكّم الغرب بالنفط العراقي، وكيف يزيد إنتاجيته أو يخفضها، ليحدّد السعر العالمي للنفط، فالعقلية التي تحكم هي عقلية عصابات، وليست عقلية دولة.
ليس لتصريحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ووزير خارجيته، مايك بومبيو، دعما لمطالبات المحتجين، علاقة بحقوق الإنسان، فلم يكن الشعب العراقي في حسابات الإدارات الأميركية التي
 عملت على تدمير العراق وشعبه، لكنها مستعدّة لتوظيف ما يحدث، للضغط على إيران في ملفات عدة. وفي الوقت نفسه، يقول العضو البارز في الكونغرس، السناتور ليندسي غراهام، إن واشنطن تعتبر رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، صديقا لها، ولكن عليه التعامل مع بعض مطالب المحتجين لاحتواء الغضب الشعبي، أي أنها ليست مستعدة بعد لهدم توليفة الحكم القائمة. ويعني هذا، وغيره، أن الولايات المتحدة ستحاول أن تضمن عدم المساس بمصالحها بأي طريقة كانت. والانتفاضات في العالم العربي، السابقة والحالية، ظلت دائما في خطر من التدخل الخارجي والثورات المضادة ومن الخطف والتشويه، الأمر الذي ينطبق على العراق، وإيران ليست بريئة مما يحدث، فليس واجبا على العراقي أو العراقية اللذين يخضعان للظلم أن يبرئا إيران، أو يعملا على حماية مصالحها. بل يكفي أن شجاعة الشعب العراقي، ومشاركة الشيعة منه في طليعتها، بدأت تكسر الثنائية الشيعية - السنية البشعة التي ساعدت في إنتاج تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وغيره من الجماعات الإرهابية وتسويقهما، ومكّنت حكاما عربا، في طليعتهم حكام السعودية، في استعمال الذعر الطائفي لدى السنة، في تنفيذ الأجندة الأميركية التي تصوّر إيران، وليس إسرائيل، خطرا وجوديا على العالم العربي.
دعم انتفاضة العراق لا يعني تنفيذ الأجندة الأميركية – الإسرائيلية، كما يزعم بعضهم، بل إنه يضرب أحد أهم مقومات هذه الأجندة التي عملت على فصل العراق عن محيطه العربي. والمؤشرات من ساحات الحرية في العراق تجسد وعيا متقدما واستعدادا للتضحية ننحني أمامه. ولكن الضامن الحقيقي، كما في الانتفاضات العربية الأخرى، هو ظهور قيادة للانتفاضة تملك رؤية لاستمرار نضال تقدّمي، عماده التحرّر والعدالة الاجتماعية لكسر الهيمنة السياسية والاقتصادية على ثورات العراق. المعركة طويلة، فأميركا لن تتخلى بسهولة عن سيطرتها على النفط، ولكن خنق إيران الشعب العراقي وتكبيله بحكوماتٍ قمعية، يضعها بمواجهة الاستعمار الأميركي، بل في مواجهة الشعوب.