في التغيير الشامل والمحاسبة

في التغيير الشامل والمحاسبة

09 نوفمبر 2019
+ الخط -
من يهتفون في لبنان "كلّن يعني كلّن"، ومن يحتشدون في الجزائر ضد انتخابات رئاسية في ظل وجود رموز نظام عبد العزيز بوتفليقة، ومن يتظاهرون في بغداد رفضاً للطبقة السياسية كلها، جميعهم يمثلون "تسونامي شعبيا عربيا"، أكثر وعياً بمعنى التغيير وحدوده التي لا غنى عنها، مدركين أنها شروطٌ موضوعية لا غنى عنها، للخروج من حفرة الواقع السياسي العميقة. وهؤلاء أكثر صبراً في مواجهة مدمني التسويف وشراء الوقت في السلطة، وفي العواصم الإقليمية المتحالفة مع النظم الاستبدادية، وأكثر استيعاباً لدروس الموجة الأولى من "ثورات الربيع العربي"، تلك التي لم تنتصر ولم تُـهزَم بالضربة القاضية، في مصر وليبيا وسورية واليمن. 
والجدير بالتأمل في الحالات الثلاث أن الحشد فيها جميعاً يزداد زخماً، على الرغم من أنه، في الجزائر مثلاً، يقترب من أسبوعه الأربعين. وفي العراق يواجه عنفاً يقارب ضحاياه من القتلى والجرحى عدد ضحايا حربٍ صغيرة. وفي لبنان، يواجه تهديدات وتلويحات لا تخلو من جدّية باحتمال مواجهته. وتفيد تجربة الأسابيع القليلة الماضية بأن الحيل التي استخدمت في بعض دول الموجة الأولى من الربيع العربي، لم تعد قابلة للتسويق، وأن أنماط الوصاية على التغيير بناءً على اعتبارات دينية أو وطنية أو أمنية، بأمل احتوائه ثم إجهاضه، لم تعد مقبولة. ويستوي في ذلك ما يحدث في الداخل وما يأتي من الخارج، فالثائرون، هذه المرة، يتمتعون بحسٍّ سياسيٍّ لا ينقصه الوضوح. والإصرار على التغيير الشامل مؤشّر على نضوجٍ افتقرت إليه مساعي الإصلاح السياسي العربية عشرات السنين، وافتقرت إليه الموجة الأولى من الربيع العربي، فالمعنى المجرّد المتصف بالشمول لـ "النظام السياسي"، تجاوز واجهة النظام السياسي، إلى البنية العميقة للنظام، كذلك صارت أكثر وعياً بركائزه المتعدّدة، وبعضها قد لا يكون رسمياً. ومع هذا الوعي الجديد، انمحت خطوط حمراء وتهاوت "قداساتٌ موهومة"، طالما كان ذكرها مما لا يألفه متكلم ولا سامع.
والركيزة الثانية لهذا "التسونامي الشعبي"، إصرار يُعد جديداً على الثقافة السياسية العربية، هو ضرورة المحاسبة: استرداد الأموال المنهوبة، محاسبة الفاسدين، التحقيق في انتهاكات حقوق 
الإنسان، ما يعني أن التعامل مع التغيير بمنطق "طي الصفحة"، بما فيها والرضا من الغنيمة بالإياب، قد أصبح من الماضي. وقد يرى بعضهم أن البعد الاقتصادي هو الفاعل الرئيس في ظهور هذا المتغير، متمثلاً في ظروف اقتصادية شديدة التردّي في بلاد تتمتع بموارد ضخمة، وخصوصا في الحالة العراقية. وهذا قد يكون صحيحاً جزئياً، فحجم الهدر، وإن اختلفت التفاصيل في الحالات الثلاث: الجزائر، العراق، ولبنان، يجعل استرداد الأموال المنهوبة مما لا مفر منه لمواجهة ما آلت إليه الحال. ولكن المحاسبة، إذ تدخل القاموس السياسي للمحكومين، لن تقتصر على "جرائم الأموال"، وستؤسس، ربما للمرة الأولى في التاريخ العربي الحديث، نهاية الإفلات من العقاب، كسياسة يصرّ عليها الحاكم ويتجرّعها المحكوم من دون اعتراض حقيقي يُذكَر. وقد أسهم التكلّس الذي أصاب معظم النخب السياسية الرسمية العربية في مساعدة الساخطين على تحويل سخطهم إلى مشروعات تغيير شامل، ففي اللحظة التاريخية التي تجمّد فيها العقل السياسي العربي الرسمي عند مرحلة الحكم بقنابل الغاز والتحكم الصارم في المجال العام، والاعتماد غير المحدود على تعاون أمني إقليمي ضد تياراتٍ سياسية محددة، جاء "التسونامي الشعبي العربي"، من خارج هذا العالم المتكلس: فتياً، بسيطاً، كاسحاً، صبوراً...
والركيزتان اللتان قامت عليهما ثورات الموجة الثانية من "ثورات الربيع العربي"، تبشّران بمستقبل أكثر إنسانية وأقل تسلطية، إذا قورنتا بتصوراتٍ تبنّتها نخب الإصلاح السياسي العربي عشرات السنين، وطالبت بها في مئات المؤلفات وعشرات المبادرات. والقاعدة الاجتماعية لهذا التغيير الجذري الذي لا يقبل تكريس "الإفلات من العقاب" دفعتهم، في المقام الأول، مظالم اقتصادية، لكنهم يدركون الآن أن السياسة هي طريقهم إلى الحصول على المسكن وفرصة العمل ومقعد الدراسة لأبنائهم، وتلك صلة كانت غائبةً عن السياسي العربي لكثيرين من عامّة الناس، حتى بعد أن انطلقت الموجة الأولى من "ثورات الربيع العربي".