شرق الفرات.. صراعٌ على نظام عالمي جديد

شرق الفرات.. صراعٌ على نظام عالمي جديد

08 نوفمبر 2019
+ الخط -
جلس اثنان من قادة العالم قبل قرن، يتقاسمان دول الشرق في ما بينهما. كان من نتائجه اتفاق دفعت شعوب الشرق ثمنه مائة عام، وها هي الشعوبُ اليوم تترقّب الإعلان عن نتائج اتفاقات جديدة، للعيش في توزيع جديد للمناطق والدول بينهم. 
لم تعد النفسيات والإمكانات والسيرورة التاريخية تتحمل بقاء الوضع كما كان، بل أفضل النهايات للمأساة السورية يجب أن تُفضي إلى نظامً جديد بحدّه الأدنى يخصُ الشرق، وكأبسط نتائجه الإعلان عن "سيستم" سياسي تقبله جميع الأطراف. وأفضل فرصة لتغيير العالم أو الشرق هي ساحة الصراع السوري.
نحن أمام قوة أوروبية مُهترئة في الصراع السوري، يُقابلها تغولٌ روسي. رُبما ظنّ الجميع أن لا شراكة للدول الأوروبية الفاعلة في الجرائم ضدَّ الإنسانية، لكن سقف امتعاضها كان بضع كلماتٍ في المجالس الدولية. ولم تكتف روسيا بإهانة القوة العسكرية الأوروبية فحسب، بل تجاوزت قضية التدخل الأوروبي الإنساني، وكسرت انحسار التوجه الشعبي العالمي صوب أميركا وحدها، خصوصا مع عدم جدّية الإدارة الأميركية السابقة في وضع حدًّ للمأساة السورية أولاً، وما تسبّب به الانسحاب من "المنطقة الكردية" ثانياً.
بات الأمر واضحاً وفق ما تنتجه الانسجامات الروسية الأميركية في ظاهرها، عكس باطنها؛ كونه صراعا فكريا ثقافيا سياسيا، لتأمين مصالح اقتصادية بديمومة مئوية جديدة، فأصبحت اللوحة السورية مُحتارةً في اختيار أحد المُفرَزين من الصراع الموجود، ما بين استمرار نهاية التاريخ عبر النظام العالمي المعاصر ونظامه الليبرالي الرأسمالي، أو الدخول في رسمٍ جديد للمشهد السياسي، عبر نظام عالمي مُغاير، ونظرية سياسية جديدة تتناسب ومقاسات اللاعبين الرئيسيين الجدد.
وفق ذلك، أصبح شرق الفرات المدماك في بناء أيّ مشروع مُقبل؛ من حيث تشكيله عُقدة
 مواصلاتً برية ترتبط مع العالم العربي، وتربطه بتُركيا، وإقليم كردستان العراق. سيما أنه الطريق البّري الذي سيشكل صراعاً اقتصادياً مروّعاً، فهو طريق نقل الغاز القطري إلى تُركيا وأوروبا بعيداً عن الساحل السوري، الخاضع للنفوذ الروسي، وهو المشروع الذي أجهضته روسيا عام 2009، يُقابله أن الحدث السوري أجهض مشروع نقل الغاز الإيراني عبر المتوسط صوب أوروبا. وربما يكون الطريق الجديد لنقل النفط والغاز من كردستان العراق إلى طرطوس السورية – الروسية. عدا عن خط التجارة البرية عبر المعابر الغزيرة التي يُمكن أن تُفتتح بين "المنطقة الكردية" وتركيا وكردستان العراق.

كما أنه يُشكلُ مدخلاً للسيطرة على العالم الإسلامي متمثلاً بالصراع بين ثلاثة أقطابً متنافرة السعودية والإمارات، لقطع الطريق أمام الهلال الشيعي، السائر من شرق الفرات، والذي قدّ يتحول إلى دائرة شيعية عبر السيطرة على اليمن والعلاقات شبه محسومة لصالح إيران مع سلطنة عُمان. والمشروع التركي. حيث ثمّة نزاعٌ وجودي بين الثلاث، السعودية والإمارات، تركيا، إيران، والضوء الأخضر الروسي والأميركي لتركيا لاجتياح رأس العين (سري كنيه) قدّ يُلزم الخليجيين لزيادة التنسيق مع الجانبين، الروسي والأميركي، الأول لضمان مصالحه في شرق الفرات المتاخم لتركيا وضمان مواقف روسية في ذلك، والثاني للحدّ من الخط البري الواصل بين طهران والضاحية الجنوبية في لبنان عبر الأراضي السورية. عدا أن شرق الفرات سيكون الممر التجاري نحو فتح الأسواق في سورية والعراق أمام مُنتجات المُنتصر. وفق ذلك، لن تجد تركيا لا حرجاً ولا استحياءً من تأمين موضع قدم لها في لعبة الجغرافيا الاقتصادية القادمة، والدور التركي في العالمين، العربي والإسلامي.
.. وها قدّ تَغيرت المُتحرِكات السياسية الاجتماعية للصراع على/ من أجل ما تبقى من المنطقة 
الكردية في شمال سورية. منذ قرابة السبع سنوات، انقسم الكرد ما بين الانخراط في المعارضة السورية والمتشبثين بنظرية الخط الثالث، علماً أن طموحات الشعب الكردي كانت تتجه صوب الاستقرار والعمل لبناء منطقةٍ يُحتذى بها في كل سورية والمنطقة، عوضاً عن الحروب والصراعات وفقدان آلاف الشهداء من دون الحصول على ثمن دمائهم.
وبات السؤال الأكثر إلحاحاً: هل ستجبر الأحداث الأخيرة في رأس العين الأحزاب الكردية المتصارعة للعمل معاً وتنحية هوياتها الحزبية الفرعية جانباً. على الصعيد الظاهري، ترغب الغالبية الساحقة بالعمل المشترك والرؤية السياسية الموحدة، لكن التمعُّن بدّقة يكشف عن وجود مزيد من التعقيدات. والفرصة لا تزال مؤاتية، فما صرح به الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن التأكيد على حل القضية الكردية في سورية بالطرق الدستورية، وضرورة البدء بحوار شامل مع الكرد في سورية يشي بأن ما تبقى من الجغرافية الكردية قدّ تكون بعيداً عن الحرب والدمار.
ولطالما حلمت بإقامة منطقة عازلة تُبعد قوات الحماية الشعبية عنها عشرات الكيلومترات على طول حدودها، ونجحت في الحصول على ضماناتٍ لتنفيذ ذلك، هذه الجغرافيا التي تفككت إلى أكثر من نصفها أصبحت تحت الوصاية والعلم والعملة وقرارات التربية التركية، وهيّ من رموز السيادة الوطنية. وللأمانة، فإن خطابات استرجاع تلك الأراضي عبر القوة العسكرية أصبحت الألسن تلوكهُا بسُخرية فجة. يُقابله ترويج بعضهم أن اتفاق روسيا وتركيا يُمهد لتنازل الأخيرة عن إدلب والمعارضة السورية ونقاط المراقبة لها في العمق السوري لقاء ذلك، لكنه رُبما أضغاث أحلامهم، فإدلب تُشكل إحدى أهم ركائز السيطرة على سورية، وإن تغاضت تُركيا عن قصف جبهة النُصرة، فإنها مُستمرة في دعم المعارضة السورية، وخصوصا في اللجنة الدستورية.
بقي للكرد طريقٌ واحد، التوجه صوب تشكيل جسد سياسي موحد، مؤلف حصرا من الكرد السوريين فقط، بغية الدخول في حواراتٍ مع أطراف مختلفة، وما سيحتاجه الكرد في تلك الفترة زيادة الانفتاح على مختلف الجهات، والتمتع بواقعية سياسية وفقاً للوقائع الجغرافية السياسية الجديدة.
وجود تكتل سياسي جديد سيعني حتّمية تغيير معادلة السيطرة أو الشراكة في مناطق شرق الفرات، على طول "الحدود الكردية – التركية"، ومناطق دير الزور والرقة، ووجود العرب والكرد، هذه المرة، في الاتفاقيات الدولية الجديدة.