"معك".. تذكّر وبساطة الحرفة

"معك".. تذكّر وبساطة الحرفة

07 نوفمبر 2019
+ الخط -
سيدة في الثمانين تتوكأ على حزنها، بعد فقد "نور أُنسها"، كي تكتب عنه وعنها، لذكراه ولذكرياتها، كي تلملم جُرحيْن في كتاب، جرح غياب ظلها وسندها بعدما هاجر الأولاد والأحفاد وظلت وحيدة، وجرح الكتابة. تُحاول أن تُمسك ظلّين في كتاب. ظلّ راحل لم يفارقها ستين سنة، وظلّ حرفةٍ لم تسعَ لها يوماً ولا جاهدت، ولكنها هي المهامّ، حينما تُلقى مصادفةً في الطريق على أحد، فتخرج الكتابة بعيدة عن الزخارف والبلاغة المعهودة والأغراض، كتابة تسعى فقط إلى نبل المقصد منها، لا إلى أي شىء آخر.
هي قصة حب جمعت بين أزهري وصعيدي وشرقي وكفيف وفتاة باريسية. جاء هو كي يبحث عن أطياف كفيفٍ آخر من المشرق أيضاً، هو أبو العلاء المعري، في ظروف عالمية طاحنة، وهي ظروف ما بعد الحرب العالمية الأولى بشهور، قصة باحث مشرقي مختلطة بالحب والبحث والمعرفة والموسيقى وتعلم اللغة، قصة عناد مشرقي كفيف وعنيد وعزيز يجد في باريس مكان قلبه وصديقة روحة وأم أولاده.
تكتب سوزان، عن بداية اقترابها من طه حسين: "إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلّمت أعمى"، والأكثر غرابة أن إيطاليّاً آخر كفيفاً مثله قال لطه حسين: "سيدي، هذه الفتاة ستكون زوجتك". الحكايات تنسج نفسها، ولهفة الحب تفيض على الحكاية بالنور، نور البصيرة وجمال الأقدار، فالحرب هناك، والحبيبة تقترب أكثر، ويكون الرحيم على القصة كلها "عمّها" القِس. وكأنها كانت تعد من العائلة لاستقبال هذا الوعد الآتي من صعيد مصر كي يكون طه حسين. وإذا بالرجل ينطقها لها، وهي ثقيلة على لسان الصعيدي جداً، وما زالت، فما بالك في 1915؟، وإذا بطه يقول لها: "اغفري لي، لا بد أن أقول لك ذلك، فأنا أحبك".
بعد الزواج، يستقبلهما حسين عبد الرازق، محافظ الإسكندرية الذي يُقتل فيما بعد (وهو أخٌ لعلي عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق)، وكأنه كُتب على سوزان أن تدخل بوابة مصر وذاكرتها الثقافية من بوابة آل عبد الرازق، الصعايدة أيضاً، وأصحاب الأفضال على الفن والمعرفة، كما حدث لأم كلثوم في مثل هذا الوقت تقريباً، وفتحوا لها بيتهم وقلوبهم ومعارفهم، فأي أيامٍ نعيشها تلك التي ذهب فيها حمو بيكا مع عصابته، كي يحطم نقابة المهن الموسيقية ويهاجمها؟ إنها الأهوال التي هي أشد كابوسيةً من مرارة الحرب.
حتى الأب (والد طه) يقول لابنه طه في أسوان في زيارتهم له: "سأخرج مع زوجتك، فلا تنشغل بنا". شيخ معمَّم في 1920، في أسوان، يخرج مع امرأة سافرة وأجنبية ومسيحية، وتعتمر القبعة أيضاً، بل وتسألها زوجته عن أي نوع من النبيذ يُحضرونه لها، فترد باسمةً بأنها لم تشرب الخمر قَطّ، وتلك قيمة الرسائل الحضارية في كتاب "معك" وما أكثرها! ويجري سردها كحياة فقط بلا مبالغة أو تهاويل. وتكمل كلامها وذلك للتوضيح في 1975: "عندما يتحدثون عن التعصب الإسلامي، لا أملك نفسي عن الابتسام أو الغضب".
كان طه حسين، بعدما عاد بفتاة باريسية وغرق في معاركه الجانبية والسياسية وعمله الصحفي أيضاً، كان هو ذلك المحارب العنيد الذي يحمل وجوهاً عدة لمعاركه. أما حينما يدخل البيت، فهو وجه الأب الحنون المحب المداعب لأولاده الصغار، وتلك فترة ثريّة جداً من الذكريات في كتاب "معك" كثيرة التفاصيل والمتاهات، "فلديّ شخصيتان، واحدة للعالم كله، وأخرى لك، لي، لنا"، هكذا طمأنها طه في زحمة مشاغله ومعاركه.
أما عن علّة طه حسين نفسه، فلم تشغلهما إطلاقاً أمام الأولاد: "لم نكن بحاجة على الإطلاق لأن نقول للطفلين إن أباهما كان ضريراً، كما أنهما لم يطرحا أي سؤال حول هذا الموضوع". أما حينما تتكلم عن قسوة السرقة التي لم تترك أيضاً "رامتان"، فتسرد بأسى: "وعندما سطا اللصوص على دارنا رامتان في الربيع الماضي، كانت الساعة من جملة ما سطوا عليه، ولقد آلمني ذلك أكثر من أي شيء آخر، وكان عذابي من الوضوح، بحيث إن ضابط البوليس المكلف بالتحقيق قال لي: سوف أعيدها لك، أقسم لك إنني سوف أعيدها لك... ولقد أعادها لي فعلاً".