نثر فلسطينيّ بالعبريّة.. كسر الصمت!

نثر فلسطينيّ بالعبريّة.. كسر الصمت!

06 نوفمبر 2019
+ الخط -
صدرت حديثاً مجموعة قصصية مترجمة إلى اللغة العبرية بعنوان "بلسان مبتورة" (تحرير راوية بربارة) كنتاج عمل منتدى المترجمين" في معهد فان لير في القدس، وتُعتبر المجموعة الأكثر شموليّة للنثر الفلسطينيّ المُترجَم إلى هذه اللغة. وتجمع بين صفحاتها 73 قصّة لـ 57 كاتباً فلسطينيّاً من إسرائيل وقِطاع غزّة والضفّة الغربيّة والشتات الفلسطينيّ، وعمل على ترجمتها 36 مترجِماً ومترجِمة ثلثهم من الفلسطينيّين. 
وبموجب ما يقول القيّمون عليها، جرت عمليّة الترجمة وَفق نهج العمل المُتّبَع في "سلسلة مكتوب"، المختصة بترجمة الأدب العربي إلى العبرية، والتي تشمل طواقم ترجمة ثنائيّة اللغة وثنائيّة القوميّة، "لا تتوخّى الدقّة في القواعد اللغويّة والإنشاء بقدر ما تعمل على إجراء حِوار كنشاط ثقافيّ سياسيّ". وهذا هو المشروع الأوّل من نوعه الذي يجري فيه إصدار أدب فلسطينيّ بالعبريّة، من خلال حِوار نَصّيّ وشفهيّ عن العلاقات المتبادلة بين اللغتين.
في تظهير المجموعة، وتحت العنوان "لم أكشف لها عن قصتي لأن لساني كانت مبتورة"، لفت عالم الاجتماع الإسرائيلي والمترجم يهودا شنهاف- شهرباني، الذي تطرّق إلى تاريخ الترجمة من العربية إلى العبرية وسوسيولوجيتها وسياستها، إلى أن جرى سكّ مصطلح "اللسان المبتورة" لأول مرة في سياق رواية الكاتب الإسرائيلي أ. ب. يهوشواع "إزاء الغابات" الصادرة في عام 1968، والتي وظّف فيها شخصية عربي مبتور اللسان. ويشير شهرباني، وهو الروح الحيّة الواقفة وراء مشروع "سلسلة مكتوب"، إلى أنه عندما بتر يهوشواع لسان الفلسطيني كانت لغته كذلك مُغيّبة في حقل الترجمة، حيث لم تُترجم أي قطعة نثر فلسطينية إلى اللغة العبرية حتى ذلك العام. وفي وقت لاحق، اكتشف المترجمون اليهود النثر الفلسطينيّ، وبالأساس إثر حرب 1967، وفقط في عام 1970، خلال الفترة التي كان فيها إنكار مجرّد وجود الفلسطينيين عموماً والفلسطينيين في إسرائيل خصوصاً لا يزال قائماً، نُشرت لأول مرة مجموعة نثر فلسطيني أعدّها وترجمها الأديب اليهودي العربي شمعون بلاص بعنوان "قصص فلسطينية"، وشملت قصصاً لعدد من الأدباء الفلسطينيين من بينهم غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وحنا إبراهيم وتوفيق فياض وسميرة عزام.
غير أن الفعلة التي أقدم عليها يهوشواع عندما بتر لسان العربي، وتبرّأ من مسؤوليته عنها، وقفت وراءها غاياتٌ عديدة في مقدمتها التنصّل من وضع أي روايةٍ على لسانه. ومع أنه سوّغ ذلك بمبرّر النأي عن إسقاط روايته عليه، فما بقي بموازاة هذا أشياء مُغرضة كثيرة، لا يجوز التغاضي عنها، ومنها لسان اليهودي، ورغبة صاحبها في صمت العربي وبكمّه، وحاجته الماسّة إلى فم عربيّ من غير لسان، أو إلى فم يُغمغم أو يُجيد الإلقاء فقط. وهذه هي، في الوقت نفسه، رغبة السردية الصهيونية: أن يتكلم العرب مثلما يريد الصهاينة أن يتكلموا، أو أن لا يتكلموا بتاتاً، أن يصمتوا.
الصمت إذاً هو الدلالة المفتاحية التي تحيل إلى المعنى المُشتهى للسان المبتورة. وهو صمتٌ لا يقتصر على العربيّ، بل يتعدّاه إلى اليهوديّ. وثمة قرائن كثيرة تثبت أن صمت هذا الأخير كان محسوباً منذ إقامة دولة الاحتلال، واتسم به مؤسسها، ديفيد بن غوريون، وسرعان ما استحال إلى صمتٍ محسوبٍ لدولة، ومؤسسة أكاديمية، ومؤرخين. كما أصبح أدباً موجّهاً، مثلما برهن الباحث إسحاق لاؤور في دراسته "نكتبك يا وطن" (1995)، والتي تناول فيها أدب أكثر من رعيل من الأدباء الإسرائيليين، بدءاً برعيل أدباء 1948، وانتهاء برعيل "أدباء جيل الدولة" الذي ينتمي يهوشواع إليه.
وهو يخلص إلى نتيجةٍ مهمةٍ مؤدّاها أن ما نحنُ شهود عليه منذ أعوام كثيرة بشأن الاستناد إلى رواية من كانت لسانه مبتورة، لا يُعدّ كشفاً لسرّ خفيّ، وإنما هو بمثابة نقض لاتفاق الصمت، الاتفاق الذي أصبح على مرّ السنوات جزءاً من الهيمنة.
يظل السؤال فيما إذا كان بوسع مجموعة "بلسان مبتورة" أن تساهم في كسر الصمت، عميقاً عميقاً داخل تلك الهيمنة.