تصحيح اتجاه البوصلة في العراق

تصحيح اتجاه البوصلة في العراق

06 نوفمبر 2019
+ الخط -
يختصر مشهد المواجهات التي جرت أخيرا حول القنصلية الإيرانية في مدينة كربلاء جوهر المعركة التي قرّر العراقيون خوضها لاستعادة كرامتهم الوطنية المهدورة، واسترداد مواردهم المنهوبة، ومعها مستقبل أبنائهم الذي صادرته طبقة سياسية تأخذ أوامرها من وراء الحدود، وتمثل جزءًا من "محور استبداد وفساد"، يمتد من طهران إلى بيروت. 
منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، بدا واضحا مدى إفلاس الطبقة السياسية التي جاءت إلى الحكم بمعية واشنطن ومباركة طهران. و"بدائية" رؤيتها في إدارة شؤون البلاد، إذ تم التعامل مع الدولة باعتبارها غنيمة حربٍ جرى تقاسمها، والسلطة، التي أُخذت بسيف الأميركان، جرى تحاصصها طائفيا وإثنيا، وفق مبدأ "هذا لكم وهذا لنا". وبدلا من نظام رئاسي متسلط، يتحكّم بموارد الدولة وريوعها، نشأ نظام برلماني زبائني، وسع دائرة توزيع الغنائم بين مكونات النخبة السياسية التي استولت على الدولة، فنشأ واحد من أسوأ أنظمة الفساد في العالم، بحسب منظمة الشفافية الدولية، فالعراق، خامس أكبر منتج للنفط في العالم، بواقع 5% من الإنتاج العالمي، يحتل، وفق أرقام صندوق النقد الدولي، المرتبة 76 بين دول العالم في معدل دخل الفرد (أي أنه يأتي بعد بوتسوانا والغابون وبربادوس). وتقدر الأمم المتحدة أن دخل العراق من النفط بين عامي 2003-2018 بلغ أكثر من تريليون دولار. فُقد منها بسبب الفساد وسوء الإدارة 650 مليار دولار. لا عجب إذا أن تغيب الخدمات الأساسية، مثل الماء والكهرباء، والصرف، والصحة، وأن تصل البطالة بين الخريجين الى 80 بالمائة.
وبحسب دراسة حديثة أعدها توبي دودج، أبرز خبراء العراق في الغرب، يعد الفساد أكبر تهديد يواجه البلد بعد القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية. وقد وجدت الدراسة أنه في أعقاب انتخابات 2018 البرلمانية، لم يتم تقاسم المناصب الوزارية بين القوى السياسية الفائزة فحسب، بل جرى أيضا تحاصص 800 منصب رفيع في المؤسسات والأجهزة الحكومية، من منصب معاون وزير الى مدير عام وغيرها. إضافة إلى ذلك، ونتيجة سعي كل "قبيلة" سياسية إلى تمرير جزء من الغنائم على أبناء القبيلة لضمان تصويتهم لها، تضخم القطاع العام عشر مرات، من 850 ألف موظف عشية سقوط النظام السابق الى 8,5 ملايين عام 2016، جزء منهم "فضائيون"، وهو مصطلح عراقي خالص، يقصد به تعيين موظفين وهميين يجري تقاضي رواتبهم من مافيات الفساد.
وعلى الرغم من أن إيران وحلفاءها استفردوا بالقرار كليا بعد خروج الأميركيين عام 2011، إلا أن الوضع بلغ ذروة السوء مع صعود تنظيم داعش، ونشوء مليشيات الحشد الشعبي، حيث باتت إيران تتحكم من خلالها سياسيا وأمنيا بمفاصل القرار العراقي. لم يكن غريبا إذا أن يتحدّث علي خامنئي عن انتفاضة العراق الأسبوع الماضي وكأنه يتحدّث عن شأن داخلي، ولم يكن غريبا أيضا أن يزور قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، بغداد ويبلغ طبقتها السياسية الحاكمة برفض المرشد إقالة "عامله" على العراق.
هذا هو الواقع الذي قرّر العراقيون الانتفاض عليه، وقد جرت الاستهانة بوعيهم، والاستخفاف بعمق انتمائهم الوطني، بعد سنوات من التجييش الطائفي والمذهبي في مواجهة جزء آخر من أبناء وطنهم يشاركونهم البؤس والتهميش.
لقد أسقطت التظاهرات التي خرجت من المدن والمحافظات ذات الغالبية الشيعية خطاب التعبئة والتخويف الطائفي من عودة "حكم السنة"، وهو الخطاب الذي استخدمته أحزاب السلطة طويلا لضمان بقاء سيطرتها عبر تعميق الانقسامات، وتخويف العراقيين من بعضهم. وبمقدار ما فاجأت كثافة التظاهرات ومناطق انتشارها واستمراريتها الطبقة السياسية الحاكمة، ساهم مستوى العنف الذي ووجهت به أيضا في تعرية خطاب التمثيل الطائفي للطبقة الحاكمة، وكشف أن ما يعنيها، في نهاية المطاف، هو المحافظة على "غنائمها" في وجه أي اعتراضٍ على فسادها، سواء جاء من فقراء السنة أو مهمشي الشيعة. مأزق الحكومة الأكبر هذه المرّة أنها لا تستطيع اتهام المتظاهرين أنهم "دواعش"، فحاولت عبثا رميهم بتهمة العمالة للخارج. من هذا الباب، كان مهما انتهاء "داعش"، لأن ذلك ساعد في تصحيح اتجاه البوصلة لدى العراقيين، وأبرز عمق انتمائهم الوطني، وسموه فوق كل انتماء ثانوي، كما بدا في احتجاجات كربلاء.