مصر والمصالح الأميركية في إثيوبيا

مصر والمصالح الأميركية في إثيوبيا

06 نوفمبر 2019
+ الخط -
يمثل اللقاء المنتظر اليوم (6 نوفمبر/ تشرين الثاني) لوزراء خارجية مصر وإثيوبيا والسودان ورئيس البنك الدولي في وزارة الخزانة الأميركية في واشنطن فرصة للتعرّف على النظرة الأميركية لإثيوبيا بعيدا عن التصورات المصرية السائدة من ناحية، وعن التصور المصري للدور الأميركي المتوقع في المحادثات، من ناحية أخرى.
يعد اللقاء جزئيا ثمرة لمطالب مصرية للولايات المتحدة بلعب دور الوساطة في مفاوضات سد النهضة، والتي واجهت تحديات كبيرة، دفعت الحكومة المصرية إلى الإعلان، في أوائل الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، عن دخول المفاوضات في طريق مسدود. وذلك قبل أن يلتقي الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ورئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، في مدينة سوتشي الروسية، في أواخر أكتوبر. حيث أعلنا إعادة إطلاق أعمال اللجنة الفنية المعنية بدراسة سبل ملء السد وتشغيله.
لذا يمكن النظر إلى لقاء واشنطن انتصارا للدبلوماسية المصرية، وثمرة للتحسّن الواضح في العلاقة بين النظام المصري وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وهنا يفيد تقرير لمجموعة 
الأزمات الدولية صدر في مارس/ آذار الماضي عن "الصراع على مياه النيل" بأن إثيوبيا، التي تواجه مشكلات في تمويل المرحلة النهائية من بناء السد وتشغيله، تفضل القروض الأوروبية على نظيرتها الأميركية، وعلى قروض البنك الدولي، نظرا إلى شعورها بانحياز الولايات المتحدة لمصر. كما يبدو اللقاء محاولة أميركية واضحة للتدخل في الملف المهم باستخدام ثقلها المالي، فهو يتم في وزارة الخزانة، وبحضور رئيس البنك الدولي، في وقت تعاني فيه إثيوبيا من أزمة تمويل وقروض "عالية المخاطر"، وفقا لتقديرات أصدرها صندوق النقد والبنك الدوليان العام الماضي. وهو ما يثير السؤال حول حقيقة النيات الأميركية؟ وهل تمثل المحادثات انحيازا أميركيا سافرا للموقف المصري؟ أم إن لأميركا دوافع أخرى؟ وهو ما يدفعنا إلى التدقيق أكثر في طبيعة السياسة الأميركية تجاه إثيوبيا في الفترة الحالية.
وهنا يجب التذكير أولا بأن اللقاء المتوقع ليس مفاوضات بوساطة رسمية، بل محادثات تهدف لتقريب وجهات النظر بين البلدين، فإعلان المبادئ الذي وقع بين مصر والسودان وإثيوبيا، في مارس/ آذار 2015، ينص، في بنده العاشر، على أن طلب الوساطة بين الدول الثلاث يجب أن يتم "بالإجماع".
وبعيدا عن وجهة النظر المصرية، يبدو اللقاء محاولة أميركية للانفتاح على إثيوبيا بشكل عام، وليس نتاجا للمطالب المصرية بالتفاوض فقط. وتعود دوافع الانفتاح الأميركي على إثيوبيا لأسباب اقتصادية واستراتيجية، تبلورت بوضوح خلال العقدين الأخيرين. واللذان شهدا تحول إثيوبيا المضطرد إلى قوة واعدة على خريطة التنافس الاقتصادي والاستراتيجي الدولي في القرن الأفريقي، فمنذ منتصف التسعينيات، وإثيوبيا تعمل على تحديث اقتصادها من خلال انتهاج سياسات السوق المحكومة مركزيا، حيث نجحت في زيادة ناتجها القومي الإجمالي لإثيوبيا من 7.6 مليارات دولار أميركي، في عام 1995، إلى 84 مليار دولار، في عام 2018. وهذا يعني أن الاقتصاد الإثيوبي نما خلال تلك الفترة بمعدلاتٍ تفوق 10% سنويا، ما جعله من أسرع الاقتصادات نموا حول العالم، على الرغم من الفقر والمشكلات المختلفة التي يعانيها. ويتوقع له الاستمرار في النمو خلال السنوات القليلة المقبلة بمعدلات تفوق 7%، وفقا للتقديرات الدولية.
خلال الفترة نفسها، شهدت علاقات مصر بإثيوبيا ودول حوض النيل فتورا واضحا، فمنذ محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرّض لها الرئيس المصري السابق حسنى مبارك في إثيوبيا عام 1995، تراجعت العلاقات المصرية الإثيوبية بشكل كبير. في المقابل، بدأت إثيوبيا مع برامج الانفتاح الاقتصادي سياساتٍ إقليمية نشطة، كالتدخل العسكري المدعوم أميركيا في الصومال (2006) ضد نظام "المحاكم الإسلامية"، والذي جعل إثيوبيا شريكا رئيسيا في "الحرب على الإرهاب" في القرن الأفريقي. كما وقعت إثيوبيا وبعض دول حوض النيل في 2010 الاتفاقية الإطارية الشاملة لمبادرة حوض النيل، والتي عارضتها مصر والسودان، لأنها تعطي لدول المنبع حقوقا أكبر في مياه النيل.
زادت أهمية إثيوبيا الإقليمية والدولية تباعا بسبب سعى الصين إلى التوسّع في استثماراتها الدولية بعد الأزمة الاقتصادية الدولية (2008)، والتي حدّت من قدرة الصين على الاستثمار في الدول
 الغربية. ولذا توجهت الصين إلى الاستثمار في الدول النامية من خلال الإقراض ومشاريع استثمار ضخمة في البنية التحتية. وتطوّرت تلك الاستثمارات في استراتيجيات كبرى كطريق الحرير. وتعد إثيوبيا من الدول الرئيسية على هذا الطريق في شرق أفريقيا. حيث تمتلك الصين قاعدة عسكرية في جيبوتي، وربطت ميناء جيبوتي بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا بخط قطار (تكلف 4 مليارات دولار)، لتسهيل حركة استثماراتها والتجارة بين البلدين. وتمتلك الصين حاليا أكثر من نصف ديون إثيوبيا الخارجية، كما تعد المستثمر الدولي الأكبر في إثيوبيا باستثمارات تفوق 13 مليار دولار من 2006 - 2015.
زاد من أهمية إثيوبيا الاستراتيجية، التنافس الدولي والإقليمي على السيطرة على مياه البحر الأحمر خلال السنوات الأخيرة لأسبابٍ مختلفة، كالتوجه الصيني إلى إحياء الطرق التجارية القديمة، والتوتر السعودي والإيراني، وحرب اليمن، ورغبة دول كالإمارات وتركيا للتوسع تجاريا في الإقليم. وهو ما أدى إلى إنشاء أكثر من قاعدة عسكرية وميناء تجاري لدول الإقليم الثرية في دول القرن. كما زادت الدول الخليجية استثماراتها الزراعية في إثيوبيا لتجنب تأثير تقلبات المناخ على أمنها الغذائي، ورغبة في تقوية علاقاتها الاستراتيجية بإثيوبيا. ويشار هنا على السبيل المثال إلى أن الإمارات رعت اتفاق سلام بين إثيوبيا وإريتريا العام الماضي. وبناء عليه، وعدت الإمارات إثيوبيا بمنح واستثمارات تقدر بثلاثة مليارات دولار.
وتعد إثيوبيا من أكثر الدول الأفريقية تلقيا المساعدات التنموية الدولية (حوالي 3.4 مليارات دولار سنويا من 2010 - 2017)، بما في ذلك مئات الملايين من الولايات المتحدة (750 مليون دولار في 2017). والتي شعرت أخيرا بأنها لم تمنح إثيوبيا الاهتمام السياسي الكافي، كما ظهر في تعليقات بعض أعضاء مجلس النواب الأميركي والخبراء الأميركيين في جلسة استماع، عقدتها لجنة أفريقيا التابعة للجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي، عن إثيوبيا في سبتمبر/ أيلول 2018. ويظهر في محضر الاجتماع شعور المسؤولين الأميركيين بأن الولايات المتحدة لم تمنح إثيوبيا الاهتمام الكافي، على الرغم من صعودها المستمر اقتصاديا واستراتيجيا والتوغل الصيني داخلها. ويظهر أيضا حالة الشعور بالتفاؤل التي منحها صعود رئيس الوزراء، آبي أحمد، إلى الحكم والإصلاحات التي قام بها. حيث ذكر تيبور ناجي مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية أن إصلاحات آبي أحمد منحت إثيوبيا "سمعة استثنائية".
وهنا تفيد تقارير دولية عديدة بأن الإصلاحات التي أجراها آبي أحمد لن تضمن وحدها استقرار إثيوبيا وتخطيها التحديثات الهائلة التي تواجهها، وفي مقدمها الخلافات العرقية في ظل شعور جماعات عرقية كبرى بالتهميش خلال سنوات الاستبداد الطويلة التي سبقت صعود آبي أحمد إلى الحكم، والخوف من انقلاب الدولة العميقة على آبي أحمد، كما حدث في محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في يونيو/ حزيران الماضي، وكذلك صعوبة برامج التحول الاقتصادي نفسها وتبعاتها على المواطنين.
تضافرت العوامل السابقة في التأثير على اهتمام أميركا بالتدخل في ملف سد النهضة، والذي سيسهم كثيرا في حل مشكلات إثيوبيا الاقتصادية (60% من سكانها يعيشون بلا كهرباء) كما سيحولها إلى دولة مصدّرة للطاقة لجيرانها. وهذا يعني أن أميركا مدفوعة في قرارها رعاية محادثات سد النهضة بمصالحها الخاصة في إثيوبيا، والتي تتخطّى مصالح مصر المائية. أميركا مدفوعة برغبتها في الانفتاح على إثيوبيا لأسباب كثيرة، في مقدمتها مواجهة الهيمنة الاقتصادية الصينية على إثيوبيا، والاستفادة من ثمار التحول الاقتصادي الإثيوبي، وضمان مصالحها الاستراتيجية في القرن الأفريقي.