الشعراوي "أمنجياً"!

الشعراوي "أمنجياً"!

05 نوفمبر 2019
+ الخط -
يتجدّد الحوار عن الشيخ محمد متولي الشعراوي، الداعية المصري، صاحب الخواطر الشهيرة في القرآن الكريم. مذيعة شابة تنتقده في تغريدة فتنقلب الدنيا. يتجاوز النقاش كلام المذيعة إلى الحالة بتفاصيلها، تأثير الشيخ، مستواه العلمي، موقفه من الدولة، مجاملته أو نفاقه أو حماسته (حسب موقعك من الشيخ) لأولي الأمر، بل وموقفه من ثورة يناير التي مات قبلها بـ14 عاما، وكذلك موقفه من الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، وموقفه من عبد الفتاح السيسي، وبشار الأسد، وثورات الربيع، حيث تساءل روّاد مواقع التواصل: ماذا لو كان الشيخ حيا؟
الشعراوي حالة استثنائية، صوفيٌّ ربطته بالناس حالة شعورية، روحية، عاطفية بامتياز، ليس للأمر علاقة بالمنجز العلمي. لم يكن الشيخ فقيها أو محدّثًا أو مفكرًا، كما لم يكن صاحب رؤى تجديدية. على العكس، كانت انحيازاته طوال الوقت تقليدية، أشعرية، ريفية، محافظة بامتياز، فضلا عن أنه لم يكن من أصحاب المواقف السياسية الكبيرة والمكلفة، تلك التي تصنع لصاحبها شعبيةً تتجاوز فقهه إلى شجاعته، والأهم أن الشيخ لم يكن مفسّرا للقرآن، وكان يرى أنه كتاب غير قابل للتفسير، وأن كل ما لديه هو خواطر حول الكتاب، الشعراوي باختصار: أستاذ بلاغة شاطر.
لم أرَ في الشعراوي متطرّفا كما يراه بعض نشطاء مواقع التواصل، بعين الواقع، لا بعين السياق الذي أنتجه. فتاواه التقليدية عن تارك الصلاة واستتابته وقتله، وخطابه شبه الطائفي تجاه المسيحيين، وموقفه الكوميدي من زرع الأعضاء، كلها آراء يوافقه عليها تسعة أعشار الأزاهرة الذين علّموه، والذين جايلوه، والذين جاءوا من بعده، لا هي فتواه، ولا رأيه، ولا اجتهاده، ولا يستطيع ألف شعراوي أن يتجاوَزها قبل أن يتجاوز المنظومة التي أنتجتها.
الجانب الأخطر في "حالة" الشعراوي هو دور الدولة. لم يكن الشيخ "أمنجيا" وفق الدلالة المتعارف عليها للكلمة. وعلى الرغم من ذلك، قدّمته الدولة على شاشتها، دعمته، حافظت على شعبيته، عيّنته وزيرا للأوقاف، بل واستمرّت في الدفاع عنه بعد وفاته عبر قنواتها ومشايخها وإعلامييها، وهو ما لم تفعله مع شيوخ آخرين يدعمونها بشكل واضح وفج ومقرف، ويوفرون لها الغطاء الديني لجرائمها.. فلماذا؟
يخطئ بعض الإسلاميين، حين يزعمون أن الدولة المصرية، أو أي دولة عربية، تعادي الدين أو تقف منه موقف الخصم. الحقيقة أن الدولة لا تستطيع، ولا تريد. لا تستطيع لأن في ذلك نهايتها، ولا تريد لأن الدين، وفق تصور الشعراوي الذي هو تصوّر الأزهر الذي هو تصوّر الحركات الإسلامية، في المجمل، هو أحد أعمدة الدولة وأسلحتها، وعوامل استمرارها. وسواء أدرك الإسلاميون أم لم يدركوا، فإن حجم استفادة الأنظمة الاستبدادية من خطابهم أكبر بكثير من حجم تضرّرها من وجودهم ومنافستهم المتخيلة على السلطة والحكم.
ما الذي تريده الدولة أكثر من خطابٍ ديني يكرس تدخلّها في الحياة الخاصة للأفراد تحت دعاوى حماية الدين وحراسة الفضيلة؟ ما الذي تطمح إليه الدولة أكثر من خطابٍ يكرّس سيطرة الأغلبية المسلمة على الأقليات، الشيوخ على المجتمع، الذكور على الإناث، الأساتذة على الطلاب، ومن ثم رأس الدولة، وكبير العائلة، على عياله من المواطنين؟ ما الذي تتمنّاه دولة النهب والسرقة أكثر من خطابٍ يضع في قائمة محرّماته الفنون والآداب، الغناء والرقص، السينما والمسرح، بل والاستمتاع بأي شيءٍ بوصفه حراماً محتملاً؟ ما الذي تريده الدولة أكثر من خطاب تخويف المجتمع من بعضه بعضا؛ الدين الآخر كفر، المذهب الآخر انحراف، التصوّر الآخر مؤامرة، الجنس الآخر فتنة، والدولة هي الحصن والملاذ الأخير، وضمانة حماية الجميع من الجميع. من هنا تأتي أهمية أهمية الخطاب التقليدي، وخطورة القراءات الحداثية. من هنا تبدو صورة التحالف غير المعلن بين الدولة وخصومها من الإسلاميين. ومن هنا أهمية الشعراوي، وكل شعراوي، بالنسبة للدولة، تلك التي، ربما، لم يقصدها الشيخ، لكنها قصدته، ربما لم يعرفها لكنها عرفته، ربما لم يشأ استغلالها لكنها استغلته وما زالت.