الاحتماء من سد النهضة بأميركا

الاحتماء من سد النهضة بأميركا

04 نوفمبر 2019
+ الخط -
قد لا يتذكّر كثيرون أن الولايات المتحدة الأميركية كانت طرفاً في مشروع بناء السد العالي في مصر، من خلال البنك الدولي، قبل أن تضغط على البنك ليوقف تمويل المشروع، بعد رفض الرئيس جمال عبد الناصر شروطها السياسية، فانتقلت مصر إلى الجهة الأخرى، واستعانت بالاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الشرقي، فخرج "السد العالي" إلى النور. 
وبعد تلك الأزمة بين القاهرة وواشنطن بفترة قصيرة، تولّت الحكومة الأميركية إجراء دراسات فنية لإنشاء سدود داخل إثيوبيا، واختصت أهم تلك الدراسات ببناء سد كبير، هو ما عرف حالياً باسم "سد النهضة". وحسبما انتهت الدراسات الأميركية في ذلك الوقت، لم تكن المواصفات الفنية للسد تمثل خطورة على الوضع المائي لمصر أو السودان. ولكن ما يثير التساؤل والريبة ذلك التتابع الزمني بين الاختلاف المصري الأميركي حول "السد العالي" ودراسة إنشاء سدود في إثيوبيا على مصادر مياه النيل الرافدة إلى مصر. وبعد ستين عاماً، تدخل الولايات المتحدة على خط لعبة السدود النيلية، وإن كانت، هذه المرة، بدعوة صريحة وعلنية من مصر. مفهوم أن القاهرة تحاول الاستقواء بواشنطن لوقف الجموح الإثيوبي، والتجرؤ على المساس بحياة وبقاء المصريين.
تدرك القاهرة أن بإمكان واشنطن التأثير على الطرف الإثيوبي بنفسها، أو من خلال إسرائيل. وتعي أيضاً، بالضرورة، أن واشنطن تتابع تطورات الأزمة منذ بدايتها قبل ثماني سنوات، بصمت وهدوء. ولم تبادر، في أي وقت، إلى التدخل أو عرض وساطة أو أي نوع من المساعدة لتقريب وجهات النظر، لا في عهد أوباما ولا تحت إدارة ترامب.
ولا إجابة شافية للتساؤل عن أسباب عدم استعانة مصر بالولايات المتحدة من قبل، أو بأي طرف دولي آخر. ولكن يبدو أن القاهرة نفسها ليست مستقرة على مطالب محدّدة، أو استراتيجية واضحة لإدارة الأزمة، فاللجوء إلى أطراف دولية أخرى لم يكن مطروحاً ضمن السياسة المصرية في هذا الملف، بما في ذلك المنظمات الدولية، سواء ذات الصلة المباشرة بمشروع بناء السد، مثل البنك الدولي، أو المعنية بالأمن والاستقرار في العالم، كالأمم المتحدة، وبصفة خاصة مجلس الأمن. ولكن يبدو أنه لم يكن لدى القاهرة نفسها سوى التفاوض المباشر والحصري بين ثلاثي الملف (مصر وإثيوبيا والسودان). ولم تكن هناك أولويات وبدائل واضحة للتحرّك في الملف، حسب الأهداف المطلوبة والوسائل الملائمة لتحقيقها. بالتالي، فاللجوء إلى أطراف دولية أخرى لم يكن مطروحاً ضمن السياسة المصرية في هذا الملف من بدايته قبل سنوات، وحتى أسابيع قليلة.
ثم فجأة، قرّرت القاهرة الاستعانة بقوى خارجية بشكل عاجل، وبدا تحرّكها نحو واشنطن متسرعاً وليس سريعاً فقط. ففي أيام قليلة، طالبت وزارة الخارجية المصرية المجتمع الدولي بالتدخل، وأجرت اتصالاتٍ مع واشنطن لتقوم بوساطة، ثم أعلنت الخارجية المصرية رغبتها أن تقود اجتماعات واشنطن إلى اتفاق ملزم!.
وعلى الرغم من أن استجابة إثيوبيا لفكرة الوساطة الأميركية جاءت بطيئة ومشروطة باقتصار الوساطة على الجانب السياسي من دون الفني الذي تمسّكت بأن يكون مصوّراً على الدول الثلاث المعنية فقط، إلا أن القاهرة سارعت إلى إعلان رغبتها التوصل من خلال الوساطة الأميركية، إلى اتفاق قانوني ملزم لأطراف الأزمة. بينما لم تذكر واشنطن، لا تصريحاً ولا تلميحاً، أنها ستتصدّى إلى حسم الخلاف، أو ترعى مفاوضات لإبرام اتفاق.
لا تتعلق المسألة هنا بما تستطيعه واشنطن، فهو كثير، وإنما بما تريده، فحتى إن انتقلت واشنطن إلى مربع التدخل الفعلي والضغط لتسوية الخلاف، فلا سبب واحداً يدعو القاهرة إلى الثقة في النوايا والتحرّكات الأميركية. وفي ظل رئاسة ترامب الذي يحسب كل خطوة بمقابل مباشر ملموس، فإن الحد الأدنى المطلوب، وهو الحياد، لن يقدمه ترامب مجاناً. فماذا ستطلب واشنطن لنفسها أو لإسرائيل، وهل القاهرة على استعداد لتقديم الثمن المطلوب؟
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.