معضلة علمية

معضلة علمية

01 ديسمبر 2019
+ الخط -
يتناول باحثون عرب، أو من في حكمهم، المسائل الإشكالية في العلاقة مع الغرب من خلال الأدبيات الغربية في العلوم الاجتماعية التي تتعرّض للمنطقة العربية، بما تحتويه من تنوع واسع، إثني وديني وطائفي. وهم غالبا ما يعتمدون هذه الأدبيات دوناً عن أية قراءاتٍ أخرى، يندّدون بما يقوم به الغرب عموماً في المنطقة العربية منذ الحقبة الاستعمارية، وربما صعدوا بنا سلالم التاريخ، لنصل إلى الحروب الصليبية.
"من فمك أدينك"، هذه العبارة هي الأساس بالنسبة لعديدين ممن اختاروا هذا الأسلوب، لتبرير الاستناد الدائم إلى نصوص غربية في العلوم الإنسانية في انتقاد الغرب. وفي المقابل، يتميّز الباحث العربي الذي اختار هذا المنهج حصرياً بأنه يبتعد كلياً عن محاولة استنباط أي مفهوم محلي متميز من خلال قربه الأكثر مصداقية، كما هي الحقيقة أو كما هو يدّعي، من أرض الواقع. ومؤكد أن العلوم الإنسانية قد شهدت تطورا واسعاً وعميقاً في الدول الغربية، وأنها أغنى تجربة وأثرى كتابة مما أنتجه الشرقيون، من عرب أو سواهم، في الحقل نفسه، إلا أن السنوات الأخيرة قد شهدت، رغماً عن أنف الديكتاتوريات والظروف الموضوعية القاهرة، إنتاجاً معرفياً صار ضروريا التوقف عنده، ومحاولة استخدامه وتطويره وإغنائه.
في هذه الملاحظة ظلم معرفي يجب تحمّل مسؤوليته، فمن المؤكد، كما سبق ذكره، أن غزارة الإنتاج المعرفي الغربي لا يمكن مقارنتها بالنادر من الإنتاج المعرفي الشرقي الحقيقي، أو 
المتخيل، في هذه الحقول العلمية، كما في سواها. ولكن الاستناد الحصري والاستعمال الحصري وجهان لرغبة واحدة، تتمحور حول الاستعراض المفاهيمي أولا، ويمكن لها أيضا أن ترمي إلى تثبيط أهمية ما أنتجه بعض الباحثين العرب في إطار المفاهيم العلمية الحديثة.
وباستعراض أبحاث علمية كثيرة ينتجها بتميز باحثون عرب، ومن في حكمهم، نكاد أن نتأكد أنهم يتحاشون الإشارة إلى ما خطته أقلام زميلات أو زملاء لهم من المنطقة نفسها، ليذهبوا بعيدا، ويبحثوا عن استناداتٍ، صحيحة معرفيا، ولكنها بعيدة جغرافيا، لباحثين غربيين.
في لقاء علمي وقع أخيرا، كانت ورقة باحث عربي تهاجم، وبقسوة غير علمية أحيانا، الغرب، وتعامله مع مسائل لها علاقة بالذاكرة الاستعمارية. وحيث أننا كلنا نعرف أن هذا الموضوع، بشقه العلمي وليس النضالي، قد عالجه باحثون ومفكرون عرب كثيرون، فإننا سنتوقع حتما ورود أسماء منهم في متن المعالجة. ولكن باحثنا يفاجئنا، في معرض تفكيكه الخطاب الغربي ونقده الشديد ازدواجية هذا الخطاب، بأن محمد عابد الجابري وصادق جلال العظم وعزيز العظمة وعزمي بشارة ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد غابوا. كلهم وغيرهم غابوا لتحضر أسماء غربية عالجت بالفعل الموضوع المطروح، ولكنها لم تكن الوحيدة، ولم تكن غالبا قادرة على الإمساك بكل أبعاد الموضوع الاجتماعية والثقافية والمكانية.
معضلة معرفية مترسّخة في آليات عمل بعض الباحثين، وهي تدل على انتقائية علمية غير موضوعية. وقد نوّه، مشكوراً، أحد المعلقين على أن اللجوء الدائم إلى ما كتبه الغربيون من دون إسقاطات واقعية على عين المكان قد تؤدي إلى فهم غير دقيق لتفاصيل معقدة، لا يزيدها هذا اللجوء إلا تعقيداً. ومؤكد أن الثراء البحثي الغربي مفيد وأساسي، إلا أن السعي إلى استنباط مفاهيم معرفية محلية، إضافة إلى محاولة استخدام ما كتبه الجادّون من الباحثين العرب، لا يمكن له إلا أن يُغني البحث العلمي معرفةً ومصداقيةً.
ويكاد سوء الظن يُحيل إلى أن بعض الباحثين يقعون في مأزق كبير، عندما لا يجدون مرجعاً غربياً لما يريدون أن يؤكدوه أو يطرحوه من أفكار، ويتضايقون عندما يقفون فقط عند ما قاله 
زملاء لهم من منطقتهم. فـ "الفرنجي برنجي" كما يقول أهل الشام، ويجب أن يكون هو المرجع دوناً عن الآخرين. وحتى إن احتاج الأمر، فربما سيقوم باحثون عرب بإضافات مرجعية، تستند إلى كتابات غربية خارج سياق الموضوع، سعياً منهم فقط إلى الدلالة على قراءاتهم الغنية والواسعة، فترى أحدهم يتحدّث عن أزمة في المغرب تتعلق ببطالة أصحاب الشهادات العليا، فيُقحم بيير بورديو وينسى جُلّ ما كتبه باحثون مغاربة شباب وأقل شباباً عن الموضوع في كل جوانبه. كما يتوقف آخر عند ميشيل فوكو لدعم حجته في الحديث عن الحراك الشعبي اللبناني، علماً أن مفكرين وباحثين من هذا البلد أنتجوا بغزارة عن العوامل المهيئة للحراك، ليس الآن فقط وإنما منذ سنوات عديدة، نصوصاً وكتباً قيّمة يمكن الاعتماد عليها لتحليل الأوضاع. كما يمكن أن ينسحب الموضوع على مجالات ومواضيع كثيرة.
يجدر التكرار أن العلوم الإنسانية الغربية أكثر تطوراً وإنتاجاً من نظيرتها الشرقية، ولا يمكن تبني سياسة النعامة أو الانعزال المميت في أي حال، لأن الاستفادة منها ودراستها أساسٌ لا بد منه. في المقابل، تجاهل ما أنتجته وتنتجه العلوم الإنسانية في مناطقنا مجحفٌ أحياناً، ويُثبّط الهمم، ويحدُّ من الأمل في التطور العلمي المنشود.