عندما ينسحب المرزوقي

عندما ينسحب المرزوقي

30 نوفمبر 2019
+ الخط -
للمرة الأولى، منذ إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية، خرج الرئيس التونسي السابق، المنصف المرزوقي، متحدثا إلى الناس، معلنا عن انسحابه من الحياة السياسية، وتخليه عن رئاسة حزبه. وكان الإعلان في صفحته الرسمية على موقع للتواصل الاجتماعي، بعيدا عن الإعلام الرسمي الذي لم يكن يوما في وفاق معه، وهو الذي كان عرضةً لهجمات إعلامية مكثفة طوال عهدته الرئاسية. 
جاء خطاب الانسحاب متضمنا جملة من المواقف، أبرزها أن المرزوقي لم يخف شعوره بالمرارة من نتائج الانتخابات الرئاسية الماضية، وربما كان مصدر الإحساس بالأسى ناجما عن شعورٍ بالخذلان من القاعدة الشعبية التي لم تمنحه فرصة العودة إلى قصر قرطاج، وهو الذي ناضل طويلا من أجل الحريات وإرساء دولة القانون والمؤسسات.
كان المرزوقي، منذ ظهوره على المسرح السياسي التونسي، شخصية مثيرة للجدل وذات نزعة مستقلة، فهو على الرغم من خلفيته القومية واليسارية عند النشأة، لم يكن متحزّبا ولا نصيرا 
للأنظمة، مهما كانت توجهاتها. ويذكر الجميع موقفه الشهير المناهض للغزو العراقي للكويت في صيف العام 1990، على الرغم من التوجه الشعبي العام الذي كان سائدا. وعندما تولى رئاسة الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، ظل وفيا لمبدئه العام الرافض للاستبداد والسياسات القمعية التي انتهجها نظام بن علي ضد خصومه الإسلاميين، ولم يمنعه الخلاف الأيديولوجي مع التيار الإسلامي أن يكون نصيرا لهم من ناحية حقوقية، ورافضا الخطط الاستئصالية التي انتهجها النظام ضدهم.
مع انتصار الثورة سنة 2011، ثم اعتلائه منصب رئاسة الجمهورية، تحول المرزوقي إلى هدف مفضل لقوى الثورة المضادة، ولم يغفر له هؤلاء توجهاته الحاسمة في دعم الثورات العربية، في مصر وليبيا وسورية، ومواقفه المعلنة ضد أنظمة الاستبداد العربي في توجهاتها العدوانية ضد التحركات الشعبية في المنطقة. وفي الداخل، لم ينشغل المرزوقي كثيرا باستعادة صراعات ماضوية بشأن قضايا الهوية وصراعات الأيديولوجيا المستأنفة لدى المجموعات الحزبية التونسية التي حاولت تجييش الناس من أجل مسائل عفا عليها الزمن. وركز المرزوقي على قضايا التنوير الفكري، من خلال استضافة رموز للفكر العربي المعاصر لإلقاء محاضرات في قصر قرطاج، ومن أبرزهم عزمي بشارة والعالم أحمد زويل.
كان تركيز المرزوقي على التحذير من الصدمة المناخية، والتي سيكون لها تبعات كارثية في غضون العقود المقبلة، بتجلياتها المختلفة، سواء في الأزمات المائية أو الفيضانات أو التلوث بكل أشكاله، بالإضافة إلى قضية الأمن الغذائي، وأهمية حماية البذور الوطنية. وهي أفكار لم تجد لها أذنا صاغية ضمن البرامج السياسية للأحزاب التونسية التي تصارعت من أجل المواقع، ولم تضع في حسبانها أن المطلوب هو التخطيط للمستقبل، بما يحمي الأجيال القادمة.
لقد دفع المرزوقي ثمن توجهاته السياسية من خلال الحرب الشرسة التي واجهها في الداخل 
والخارج، من صناع الثورات المضادة وأتباع أنظمة الاستبداد العربي، وهو أمر كان متوقعا على الأقل بالنسبة لشخصٍ يرفع شعارات التغيير الجذري، ودعم موجات الربيع العربي المتتالية. غير أن من أسباب الفشل السياسي للرئيس السابق المرزوقي سوء إدارته الحزبية، فلم يكن ذا قدرات تنظيمية، على الرغم من قدراته التنظيرية وسقف طموحاته العالي، فقد انهار حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي كان ثالث قوة نيابية في انتخابات العام 2011. وعلى الرغم من أن المرزوقي استفاد من التفاف الجمهور حوله في انتخابات 2014، حيث كان المنافس الأبرز لمرشح بقايا منظومة الاستبداد، إلا أنه عجز عن تحويل ذاك الزخم الشعبي إلى قوة حزبية فاعلة، على الرغم من إعلانه عن كيان حزبي جديد، حمل اسم حراك تونس الإرادة الذي لم يحصل على أي مقعد في انتخابات 2019.
وفي الانتخابات الرئاسية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لم يدرك الرئيس السابق المنصف المرزوقي أن الصراع الحزبي الحاد والتحولات السياسية التي أفرزتها سياسة التوافق التي سادت إبّان السنوات الخمس الماضية، أفقدته الكثير من حضوره الشعبي، وربما كان الأجدى ألا يتقدّم للرئاسة حينها، لأنه بالمنطق الحسابي لم يكن لديه حظوظ للفوز. وبإعلانه الانسحاب من العمل الحزبي، يكون المرزوقي الشخصية السياسية الأكثر جرأة في جيله، حيث لا يزال أغلب أبناء هذا الجيل متمسكين بنفوذهم الحزبي من أقصى اليمين إلى أقصر اليسار، فشخصيات مثل أحمد نجيب الشابي ومصطفى بن جعفر وحمّة الهمامي وراشد الغنوشي وغيرهم ربما يشعرون بالحرج بعد انسحاب المرزوقي، وإن كان يصعب التكهن بمدى استعدادهم للقيام بخطوة مماثلة.
على الرغم من كل هذه المرارة التي صاحبت هزيمته الانتخابية، يظل الرئيس السابق المرزوقي شخصية وطنية مهمة، لها دورها في الدفاع عن الديمقراطية، والتصدي لكل الانحرافات التي قد تطرأ على مسار تونس الانتقالي، وهو أمر يحفظ للرجل مكانته في الذاكرة الشعبية والتاريخ الوطني، وهذا لا ريب فيه.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.