أصدقاءنا الأتراك.. ما هكذا تورد الإبل

أصدقاءنا الأتراك.. ما هكذا تورد الإبل

30 نوفمبر 2019
+ الخط -
لا يمكن للسوريين أن ينسوا أبداً ما قدمه الشعب التركي الصديق لهم، حين أتوه هاربين من "ظلم ذوي القربى"، فمنذ الأيام الأولى للثورة السورية، ومنذ أخذ الرصاص القاتل يحصد المحتجين السلميين في الساحات العامة مع بداية العام 2011، ومن ينجو تأخذه الأجهزة الأمنية إلى المعتقلات التي هي موتٌ آخر أشدُّ مرارةً وفظاعة، أخذت الهجرات السورية باتجاه بلدان الجوار، ومنها الجار التركي، وازدادت الهجرة مع بروز ظاهرة الانشقاقات العسكرية والمدنية، ورفض الشباب الالتحاق بالجيش، كي لا يقتل السوري أخاه السوري، ولشعور هؤلاء الشباب بأن هذه المعركة ليست معركتهم الوطنية المنتظرة. وتفاقمت الهجرة، حين أخذت البراميل المتفجّرة تهدم، بالتوحش كله، البيوت فوق أجساد الأطفال والأمهات، إلى أن غصت المدن التركية بالسوريين. وربما تجاوز العدد، كما هو معلوم للجميع، أربعة ملايين نسمة. 
واستُقبِل السوريون، منذ البداية، استقبالاً إنسانياً لائقاً، وخلال تلك السنوات التسع، ومن دون أية عوائق، أخذ السوريون في الاندماج شيئاً فشيئاً ضمن المجتمع التركي، فدخل أبناؤهم المدارس التركية والجامعات، وعولج مرضاهم في المشافي مجاناً، وساهم السوريون، بنشاطهم المعروف، في الفعاليات الاقتصادية، عمالاً ورجال أعمال، كما ساهموا في الفعاليات الاجتماعية والثقافية، بالتشارك مع أصدقائهم الأتراك، وتعلَّم الأطفال منهم والشباب اللغة التركية بسرعة فائقة، فثمة وشائج كثيرة بين اللغتين، واكتسب بعضهم الجنسية التركية. وصارت تركيا، على صعيدي الشعب والحكومة، مضرب المثل في حسن التعامل مع المهجَّرين السوريين، على الرغم من منغصات تفرضها الأوضاع الطارئة، كأن تلصق بعض المشكلات التركية المحضة بهجرة السوريين. ولعلَّ بعض الأحزاب المعارضة هي التي وجدتها فرصة للنّيل من خصومها السياسيين، لكن الأمر كله لم يكن ليتعدّى حوادث سرعان ما يجري التدخل لحلها.
ويلتزم السوريون، في المقابل، التقيد بالقوانين والأعراف العامة للبلد المضيف. وأمر طبيعي أن 
تكون الثقافة حاضرة لدى السوريين في مغتربهم، فعمل كثيرون منهم في ميادين الإعلام وألوان الثقافة. وأقيمت معارض للفنون التشكيلية، وللأعمال اليدوية النسوية. وتكونت فرق مسرحية، وأخرى موسيقية، وكان الكتاب العربي أكثر حضوراً من بين تلك الفعاليات. وشكَّل معرض الكتاب العربي تظاهرة كبرى في إسطنبول، وحمل اسمها، حيث الحضور العربي كثيف. فإلى جانب السوريين، هناك المصريون والعراقيون والليبيون واليمنيون والسودانيون.. إلخ. وللأمانة، قُدّمت مساعدات جمة، واحتُفي بالناشرين بما يليق بهم وبمهنتهم ودورهم الثقافي.. وعلى ذلك، صار معرض إسطنبول للكتاب العربي تقليداً سنوياً، يُقام في سبتمبر/ أيلول من كل عام، بُعيد افتتاح المدارس والجامعات، وشُجِّع الطلاب على اقتناء الكتب بأشكال شتى، منها منحهم بطاقات مجانية تخوّلهم شراء كتاب أو عدة كتب، تتحمل بلدية إسطنبول والمشرفون على المعرض تكلفتها، وهذه بادرة حسنة، تدعم الكتاب والقارئ على السواء.
وعلى غرار معرض إسطنبول، وعلى هامشه، أخذت منظمة "الرواد للتعاون والتنمية" تقيم معرضاً سنوياً، حيث وجودها في مدينة غازي عينتاب، تحت اسم ملتقى الكتاب، وتعرض فيه بعض الكتب التي عرضت في اسطنبول. ومعلوم أن نحو أربعمئة ألف سوري يعيشون في غازي عينتاب القريبة من حلب، وفيها كثير من منظمات المجتمع المدني، ومن الإعلاميين والعاملين في حقول التعليم وغير ذلك. ولا يتاح لهؤلاء المتعطشين للكتاب العربي الذهاب إلى إسطنبول، سيما وأنَّ تشديداً ما مفروض على تنقل اللاجئين الموضوعين تحت الحماية المؤقتة من مدينة إلى أخرى وفق شروط محددة. وجاء الملتقى الثالث للكتاب مميزاً عن الملتقيين السابقين، في حفل افتتاحه الذي حضره مثقفون أتراك وسوريون، وبزواره المميزين، وبما رافقه من أنشطةٍ ثقافيةٍ متنوعةٍ لافتة ما أسعد المشتركين أجمعين، ولكن ما حصل في الساعات الخمس الأخيرة، أي قبيل حفل الاختتام وتوزيع دروع المنظمة المستضيفة على العارضين، فوجئ الجميع بدخول أفراد يمثلون مديرية الثقافة (أو جهة أخرى) في المدينة، لتنفيذ حكم محكمة قضى بمصادرة الكتب المعروضة، بزعم أن لا وجود لـ "البندرول" (الموافقة الرسمية على نشر الكتاب وعرضه) على أغلفتها. ولما كانت معظم الكتب العربية آتية من بلدانها الأصلية، فإنها تدخل بلد المعرض من غير تلك الموافقة. وحتى التي تطبع في تركيا لا تحصل جميعها على هذه الموافقة. ولم يطالب أحد، على الرغم من المعارض الخمسة التي أقيمت في إسطنبول، والاثنين اللذين أقيما في غازي عينتاب سابقاً، ومع ذلك، فقد صودرت الكتب. فكيف استقام أمر هذه الكتب المصادرة في معرض إسطنبول، ولِمَ لَمْ يستقم في معرض غازي عينتاب والبلَدان في دولة واحدة، وثمّة موافقة نظامية من والي غازي عينتاب.
ما حصل سيئ، وغير مقبول، وكان يمكن أن يسبقه تنبيهٌ ما، أو أن تؤخذ عينة ما من الكتب من دون المساس بالمعرض، ولا بزواره الكثيرين الذين غالباً ما يؤجلون زيارتهم لليوم الأخير.
 هؤلاء الذين أكرهوا على الخروج من الأجنحة والردهات، في جوٍّ أثار أسئلة وتكهنات كثيرة، ما يولد إشاعات كثيرة.
ليس ما حصل مزعجاً فحسب، بل أيضا يدعو إلى الريبة والتساؤل، فما الذي يخفيه هذا التصرف؟ ولنفترض أنَّ ثمة مشكلة، أفلا يمكن أن تحلَّ بأسلوب آخر، سيما وأن المعرض في ساعاته الأخيرة؟ ولكن يبدو أن من يقف وراءها لا يريد "العنب" بل يبغي "قتل الناطور"، بمعنى أنه فقط يريد الإزعاج، ولا شيء غيره، وفي الحالين لم يحصل على شيء. صحيح أن العارضين أخذوا إلى جهة أمنية، وأخذت بصماتهم على أنهم من مرتكبي الأفعال الجنائية، وبعضهم كتاب وشعراء، بيد أن ذلك لم يسؤهم أبداً، بل أكثر ما يسيء إلى الجهة المختبئة خلف ذلك الفعل. وعلى ذلك، لا بد للجهات المعنية من أن تقوم بفعل ما للخلاص من هذه الفوضى التي حصلت. صحيح أن ثمة قرار محكمة، كما قيل للمشاركين، وسيُعترض عليه أصولاً، ولكن هذا شيء وما جرى شيء آخر لا يتوافق مع ما تذهب إليه تطلعات الشعبين، السوري والتركي، من إقامة علاقات صداقة راسخة، يحكمها حسن الجوار والاحترام المتبادل.
1D1ED1EA-2F95-436E-9B0D-9EA13686FACD
محمود الوهب

كاتب وصحفي وقاص سوري، له عدد من المؤلفات والمجموعات القصصية