عن ذريعة "المؤامرات الخارجية"

عن ذريعة "المؤامرات الخارجية"

29 نوفمبر 2019
+ الخط -
في منطق الأنظمة الفاسدة، فإنها وعوضاً عن أن تعترف بفسادها، وتعمل على إصلاح مكامن فشلها أمام هبّات شعبية لم تتحسّب لها، تجدها تميل إلى الاستقالة من المسؤولية، وتلقي اللوم في ذلك على جهاتٍ و"مؤامرات خارجية". طبعاً، حال توظيف منطق "المؤامرة الخارجية"، فإن أي نظام يُمَكِّنُ لنفسه نزع الشرعية عن الاحتجاجات والتظاهرات، وبالتالي البطش بها، بذريعة حماية البلاد والعباد من الأعداء الخارجيين الذين وجدوا لهم "عملاء" في صفوف الشعب. هذا هو تماماً السيناريو الذي نشهده هذه الأيام في إيران والعراق ولبنان ومصر والجزائر. وهو المنطق نفسه الذي تمَّ توظيفه سابقاً في غير مكان، وسيجري توظيفه لاحقاً، أيضاً، في غير مكان. إنها لازمةٌ تجدها في كتاب الديكتاتوريات قاطبة. 
عندما تفجرت الاحتجاجات الشعبية في إيران، منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، على خلفية قرار الحكومة زيادة أسعار الوقود، لم يتردّد النظام الإيراني، بكل مرجعياته الدينية والسياسية والعسكرية والأمنية والقضائية، في توصيفها "مؤامرة خارجية". هذا التوصيف شَرَّعَ للنظام أن يتعامل مع الاحتجاجات بوحشيةٍ عالية، أسفرت عن عشرات القتلى وآلاف المعتقلين، حسب منظمات حقوقية دولية. ولم يتورّع قادة في الحرس الثوري الإيراني من أن يهدّدوا 
المحتجين بالقمع والحسم، وكأن الحديث هنا عن جيوشٍ غازية معتدية، لا عن بعض أبناء شعب إيران أنفسهم الذين أخرج معظمهم الحاجة والعوز وضيق ذات اليد. وكان لافتاً أن يصرّح المرشد الأعلى، علي خامئني، خلال فترة الاحتجاجات، أنه قد تمَّ "دحر العدو"، الذي هو "أبناء" الشعب الإيراني! وإذا استلهمنا منطق خامئني هنا، فكيف لا يكون ما جرى من قمع وتنكيل وسفك للدماء دحراً "للعدو"، وهو نفسه من اعتبر الاحتجاجات والتظاهرات "مؤامرة كبيرة وخطيرة"؟
ينطبق الأمر نفسه على العراق الذي يشهد احتجاجات شعبية منذ أسابيع، ذهب ضحيتها عشرات برصاص أجهزة الأمن ومليشيات مسلحة تابعة لتياراتٍ تحكم قبضتها على الحكومة العراقية بالمطلق. مطلع الشهر الماضي، صرح مسؤول عراقي كبير لوسائل الإعلام بأن حكومة بلاده أفشلت "مؤامرة" كانت تُحاك ضدها لإسقاطها، وأن هذه "المؤامرة" كانت تتدثّر بالمظاهرات الشعبية. مرة أخرى، مهد هذا التصريح، وغيره، إلى نزع الشرعية عن المطالب الشعبية المنادية بمحاربة الفساد والمساواة وتوزيع ثروات البلاد بشكل عادل، فضلا عن إصلاح قواعد النظام السياسي، وكانت النتيجة أن سفكت دماء عشرات من الأبرياء، بذريعة محاربة "المؤامرة الخارجية"!
ولا يبتعد لبنان عن السياق العراقي، إذ يشهد، هو الآخر، مظاهرات شعبية واسعة منذ أسابيع، احتجاجا على فساد النخب السياسية الحاكمة، والمحاصصة الطائفية، وتدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية. ومع ذلك، لم يُثر ذلك كله قلق الرئيس ميشال عون بقدر ما أثار قلقه "المؤامرة الخارجية"، إذ إن "التحقيقات بيّنت أنّ أرقاماً هاتفية خارجية، عابرة للحدود، تواصَلت مع البعض في الداخل خلال التحرّكات الأخيرة، وأنّ هناك استهدافاً منهجيّاً للعهد، بتحريضٍ من جهاتٍ في الخارج واستجابة من قوى في الداخل". المنطق نفسه وظفه صهره، وزير الخارجية وزعيم التيار الوطني الحر، جبران باسيل، عندما اعتبر أن "هناك شركاء في الداخل يتآمرون على البلد واقتصاده، ويعملون على التخريب، ويتبعون لأجندة خارجية". ولم ينتظر الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، كثيراً قبل أن يدلي، هو الآخر، بدلوه، عندما غمز من قناة مصادر تمويل الاعتصامات الشعبية، بحيث إن "ما يصدر اليوم من الحراك لم يعد عفويا، وهناك تجمعات ومؤسسات باتت معروفة وهناك تمويل".
المفارقتان الأبرز، في السياقين، العراقي واللبناني، تتمثلان في: أولا، أن المتظاهرين والمعتصمين هم من كل الطوائف والخلفيات الفكرية والسياسية. والدليل أن مدناً عراقية شيعية، كما كربلاء والبصرة والنجف، مشاركة في الاحتجاجات، مثل بغداد التي هي بوتقة ينصهر فيها الكل العراقي. بل إن أغلب المدن المنتفضة شيعية، وأغلب من يهتفون ضد تسلط إيران على العراق، هم شيعة. وفي لبنان خرجت مدينتا صور والنبطية الشيعيتان في الجنوب، تماماً كما خرجت صيدا وطرابلس السنيتان. وتجمع ساحات بيروت كل المعتصمين، بمن فيهم مسيحيون ودروز، فالفقر، كما قال أحد المعتصمين، لا يفرّق بين أحد. أما المفارقة الثانية، فهو الموقف الإيراني من احتجاجات العراق ولبنان، واللذين تعتبرهما إيران مناطق نفوذ لها، فبالنسبة لخامئني، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل و"الدول الرجعية" هم من يثيرون الفوضى فيهما وفي إيران نفسها. وعلى الرغم من أن استبعاد الأصابع الخارجية العابثة هو ضرب من السفاهة، إلا أن "المؤامرات الخارجية" لا تنجح إلا إذا كانت مناعة الجسد منهارة داخلياً. هذه هي الحقيقة التي تنطبق على إيران والعراق ولبنان، وغير ذلك من الدول.
ولا يغيب منطق "المؤامرة الخارجية" عن الترسانة الذرائعية للنظام الحاكم في الجزائر منذ 
انطلاق الاحتجاجات الشعبية في فبراير/ شباط الماضي، بعد إعلان الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، ترشّحه لولاية خامسة. وعلى الرغم من استقالة بوتفليقة في إبريل/ نيسان الماضي، بضغط من قيادة الجيش التي حولت موقفها من داعم للولاية الخامسة إلى معارض لها تحت ضغط الشارع، إلا أن القيادة نفسها لا زالت ترفض الاستجابة لمطالب الشعب الجزائري، خصوصاً في ما يتعلق بمحاربة الفساد، وإصلاح قواعد النظام السياسي، ووقف هدر الثروات الوطنية. "لا نقبل تدخلاً أو مساومات من أي طرف خارجي"، هكذا يبرّر رئيس الأركان، والحاكم الفعلي للجزائر، قايد صالح، رفض المطالب الشعبية، وبالتالي نزع الشرعية عنها بذريعة أنها تأتي في سياق "تدخلات خارجية"!
وكما سبقت الإشارة، وظفت دول عربية أخرى وتوظف المنطق نفسه أمام كل مطالب عادلة لشعوبها، وها هو الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، يحذر شعبه، في سبتمبر/ أيلول الماضي، من "مؤامرة" لـ"تشويه جهود الجيش" وتغيير الحكم في مصر. بل إنه وضع المصريين أمام خيارين، إما الاستسلام لتلك المؤامرات، أو الوقوف في وجهها قبل أن "يُسقطوا مصر"، والتي لن تتم "إلا بسقوط الجيش، وهذه كانت المؤامرة منذ 2011"، والتي كانت تتوخّى النموذج السوري. أما سياق الحديث كله فهو التصدي لما كان كشفه حينها الفنان والمقاول المصري، محمد علي، عن حجم الفساد في مصر، خصوصاً الذي تشرف عليه المؤسسة العسكرية، وهو ما أدى إلى تظاهرات شعبية محدودة، قمعتها الأجهزة الأمنية بشراسة.
باختصار، توظف الأنظمة الفاسدة والقمعية والفاشلة فزّاعة "المؤامرة الخارجية" لنزع الشرعية عن مطالب شعوبها العادلة. هذا لا يعني أنه لا توجد مؤامرات خارجية، وأصابع تعبث، تحاول المسَّ باستقرار بعض الدول، ولكن ذلك ما كان ليحدُث، أو ينجح، لو لم تكن بنى الدول الفاشلة مضعضعة داخلياً. الناس لا تخرج إلى الشوارع معتصمة أو متظاهرة أو محتجة لأنها تحت تأثير سحري لـ"المؤامرات الخارجية"، وإنما تخرج إلى الشوارع، لأن القهر بلغ مداه، وما عاد يمكن كتمه أو السيطرة عليه. حينها، تتمكّن "المؤامرات الخارجية" من صبِّ الزيت على النار. وإذا كان من مؤامرةٍ كبرى في هذا السياق، فهي مؤامرة الأنظمة الفاشلة على دولها وشعوبها التي تفسح المجال واسعاً أمام عبث الخارج المتربّص.