تونس بين زمنين

تونس بين زمنين

29 نوفمبر 2019
+ الخط -
تحدث وزير الثقافة التونسي، محمد زين العابدين، في جلسة عقدتها بلدية تونس في قصرها البلدي قبل أيام، عن دولة المواطنين والمجتمع المدني والتصورات الثقافية التي تتبناها حكومات "الوحدة الوطنية" في تونس، بخاصة منذ دستور العام 2014. 
وأكثر ما خطر لي، وأنا استمع إلى الوزير، وهو يؤكد أن الوصول إلى ثقافة المواطنين تمر عبر الاعتماد على مؤسسات المجتمع المدني، والإيمان بدورها وتوسيعه، كي لا تكون التوجهات الثقافية للدولة مؤدلجةً فوقية؛ همها تحقيق رؤية النظام وحسب، أقول إن أكثر ما خطر لي ذلك الفارق الرهيب بين تونس التي أزورها اليوم وتلك التي زرتها قبل عقد ونيّف، حين كان الخطاب الرسمي الوحيد السائد هو الذي يسبح بحمد رأس النظام، ويتغزّل برؤيته الثاقبة وبُعد نظره وحكمته، فيما يُكتفى للمواطنين بدور متلقي الفضل الذي ينعم بظلال ذاك الحكيم المُهاب القابع في قصره.
وسواء كان خطاب الوزير التونسي حقيقياً، يعبر عن واقع الحال في السياسات الحكومية، أم دعائياً همّه خطب ود الرأي العام لا غير، فالثابت أن الدنيا تغيّرت كثيراً في تونس. بكلمات قليلة، تحوّلت تونس، بفضل ثورة شعبها، من بلاد للخوف إلى بلاد للقول الحر، على طريق مزيد من النجاح في بناء دولة المواطنين الراسخة.
هذا لا يعني أن الثورة أنتجت، بالنسبة لمراقب عربي مثلي، حالاً وردياً تماماً، إذ من الواضح أن 
سنوات ما بعد الثورة ترافقت مع مشكلاتٍ معيشيةٍ عميقة، لعلها تمثل اليوم هاجساً للناس أكثر مما مثله هاجس الحرية وحقوق الإنسان في ما مضى. والمؤكد أن قضايا ما بعد الثورة تبدو متداخلة تماماً، إذ يقود التنافس السياسي في نظام تقاسم السلطة الذي برز بعد الثورة إلى عدم وجود سياساتٍ حكوميةٍ قادرة، وأحياناً راغبة، في حل تلك المشكلات المعيشية، كما تبرز تلك المشكلات نفسها أداةً يستخدمها المتنافسون سياسياً لتحسين حضورهم السياسي وتجميله، ما يفضي إلى تسّرب الفساد عبر مغازلة الحاجات المعيشية من جهة، وإعاقة حل مشكلاتها حلاً عميقاً ناجعاً من جهة ثانية.
المسألة الحاسمة في التفريق بين نظام فردي مستبد كان قائماً، ونظام جديد يقوم على التشاركية في السلطة، أن يكون النظام الجديد متاحاً للمشاركة العامة الحقيقية لكل المواطنين، لا نظاماً لزعماء السياسة وأصحاب المال السياسي، يستعيد أسوأ ما في أنظمة المحاصصة الطائفية والقبلية التي عرفها عالمنا العربي، فهل هو كذلك؟
ثمّة حماسٌ مفرطٌ ما تزال جذوته مشتعلةً بين الشباب في تونس، من أجل المشاركة العامة، ربما يكون مدفوعاً بنجاح الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ولكن عدم الاستقرار السياسي الذي من أبرز معالمه ظهور أحزاب سياسية مؤثرة ثم ذوبانها في سنوات قليلة، رجوعاً إلى مدى حضور قادتها ووجوهها المؤسّسين، يعني أن السياسة في تونس ما تزال مرهونةً لتنافس قادة التيارات والأحزاب وأصحاب النفوذ، أكثر مما هي متاحة لعامة الشعب، بما لا يجعلها ذات آليات قادرة على التصعيد السياسي على أساس الكفاءة والتميز الفردي.
يحدث هذا، كما هو بائنٌ في الخلاف على تأسيس الحكومة التونسية عقب الانتخابات البرلمانية أخيرا، في وقتٍ كانت الانتخابات الرئاسية قد أفضت إلى ما يعاكسه تماماً، إذ أفرزت رئيساً اعتمد على كفاءته الفردية، لا على المال السياسي ولا الزعامة التقليدية. وهذا بالطبع يعكس ماهية الحال في الحياة السياسية التونسية الراهنة: رئاسة البلاد تبدو مفصولةً عما يجري في بقية الحراك السياسي، الذي هو أساس حل قضايا المواطنين، والتماس مع حياتهم ومتطلباتهم ومشكلاتهم. ما يعني أن النجاح المبهر لانتخابات الرئاسة في تصعيد فردٍ من الشعب إلى زعامة البلاد، لا يعني بالضرورة تعبيد الطريق لواقع اقتصادي واجتماعي جديد في البلاد.
تؤكد التجربة التونسية، مرة أخرى، أن بيضة القبان في نجاح ثورات الربيع العربي هي مدى قدرة الفرد على المشاركة العامة على أساس استعداده المدني وثقافته المدنية. وإذا كانت تونس أظهرت نجاحاً مهماً على هذا الصعيد، فإن الطريق إلى بلوغ المشاركة العامة، بمعناها العميق، ما تزال في بدايتها، وإنْ من الرائع أن تونس بدأت طريقها فعلاً.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.