إنها ثورة نساء لبنان .. ورجاله أيضاً

إنها ثورة نساء لبنان .. ورجاله أيضاً

28 نوفمبر 2019

خلال احتجاج في ساحة الشهداء في بيروت (22/11/2019/فرانس برس)

+ الخط -
طغتْ اللبنانيات على اللبنانيين في ساحات هذه الثورة. ولا مجال لمقارنتهن بأخواتهن العراقيات والإيرانيات. في وقائع انتفاضة إيران، لم تصل إلينا إلا صورة تلك المرأة البالغة الشجاعة التي وقفت وحدها على جسر، شالحةً حجابها، تصرخ ضيقها من حكم الملالي، والمرشد الأعلى، وفسادهما.. ولا صورة أخرى، غير جماهير من الرجال المتراصّين، الراكضين، الضاربين في الأرض، هرباً من قمع منقطع النظير. فيما وقائع انتفاضة العراق، استحوذ الرجال على مشهدها بأكمله، بالدموية البشعة التي صدّتهم بها السلطة الحاكمة، بكرّهم وفرّهم، بجمهرتهم وشهدائهم؛ والمرأة الوحيدة التي طلّت علينا، كانت إما خلف الخطوط تحضر الطعام وتطلق صرخات التشجيع، أو طبيبة متطوعة تعالج ما تيسر لها من علاج؛ أو صبية بكامل جمالها ظهرت على المنتفضين من نافذة سيارة، ترفع راية نصرتهم والأخذ بيدهم؛ فيما تملأ الأثير صور الشباب المصابين بصواريخ في رأسهم، تقسمها قطعتين، أو رصاصة واحدة قاتلة، من بعيد. 
أما صورة الحشود النسائية اللبنانية الثائرة، فلم تكن مشهداً وحسب، بل يمكن أن تتلمّسها بمجرّد نزولكَ إلى واحدة من ساحات التظاهر... الأسباب؟
عدد الرجال باتَ أصلاً ضئيلاً، فالشباب منهم هاجر، أو ينتظر "عقد العمل"، ومن بعده التأشيرة (الفيزا). فيما استشهد آخرون، في حروبٍ شتى، أو تعطلت آمالهم عن إنتاج أي حركة؛ ثورية كانت أم مضادة للثورة. وهذه الهجرة أصابت الشابات في سعيهن إلى شريك؛ وأصابت أيضاً أمهات لبنان، ممن بلغ أبناؤهن عمر الهجرة؛ أي أجيال النساء الأربعينيات وما فوق، فلا تخلو حياة واحدة منهن من ابن مهاجر، أو ابنة، أو أبناء. وكان صوت أولئك الأمهات، الشابات منهن والهرِمات، واحدةً من صرخات الثورة الأكثر توجّعاً.
وهن يسيطرن على الساحات، لأن تظاهرات هذه الثورة كانت سلمية. لا من ناحية المتظاهرين 
وحسب، بل أيضاً، وهو الأهم من ناحية من مِن المفترض بهم أن يقمعوهم، كما يفعل نظراؤهم الإيرانيون والعراقيون؛ أي الجيش وقوى الأمن الداخلي. والاثنان، بتسامحهما، ساعدا على تحويل ساحات التظاهر إلى كرنفال فرحٍ ودموع فرح، وأهازيج ورقص وضحك وابتسامات متبادَلة.. وإن تخلل عمل الاثنين بعض القمع، وقد التبست ظروفه في غالبية الأحيان. وهذا من دون حسبان شبيحة حزب الله وحركة أمل، المتخبطين بعقيدتهم، والقاصدين إرهاب اللبنانيين، والقضاء على ثورتهم من أساسها.
ثم إنهن، بنزولهن إلى التظاهر، لم يكن في بالهن لحظة واحدة أنهن يمكن أن يتعرّضن للتحرّش الجنسي، فعين الرجل اللبناني "شبْعانة جمال"، بالقول الشعبي. وما تعرفه شوارع معظم مدن العالم العربي، من المواظبة على التحرّش بالنساء الخارجات من بيوتهن، ليس عهداً عند الرجال اللبنانيين.
وفي مقدمة أولئك النساء شابات في العشرينيات، والثلاثينات بالحدّ الأقصى، بل والأربعينات؛ فضلاً عن المراهقات، وتلميذات المدارس. وهن على درجةٍ عاليةٍ من الجاذبية والجمال وحرية الهندام. الإعلام ركّز عليهن، فصدّر صورة حقيقية عنهن ولكن ناقصة. إذ لم تخلُ الساحة من محجّبات و"متستِّرات". كما لم تخلُ من نساء في الأربعين وخمسينيات وستينيات، لا بل رأينا طاعنات في العمر، يحملن العصا ويرقصن الدبكة، على أنغام الثورة بروحٍ شبابية عالية. ومشاهد كهذه لم يصدّرها الإعلام، المأخوذ بالصور الرنّانة والطنانة عن اللبنانيات. وهذا ليس عيباً بحدّ ذاته؛ إلا لأنه يغفل الصورة الأقل "جاذبية"، ويعطي أولويته لسحر الصبا والجمال.
أيضاً: اللبنانيات يعتَنين، على الأقل بأناقتهن، وعلى الأكثر بزينتهن وجاذبيتهن. مهما بلغنَ من العمر، ومهما كانت الطبقة التي ينتمينَ إليها. ثمّة استثناءات طبعاً، كما لدى كل الشعوب. ولكن بالمجمل، تلمس هذه السمة، حتى في أوقات الحرب العصيبة. ولا تخرج من بالي تلك اللحظات الأمنية شديدة الوطأة، في أثناء الحرب الأهلية، والقذائف تنهمر علينا، حيث كانت صالونات تزيين الشعر مقفلة.. تدَبّر جارتي الأمر بلف شعرها بـ"البيغودي"، لا تحضيراً لعرس، إنما تهيؤاً للخروج من البيت بحثاً عن فرنٍ بقي لديه الخبز، أو ملحمة، أو سوق خضار.. إنه تعلّق بالحياة، بأكثر وجوهها خفّة، بأقلها مصيريةً، معطوفة على أناقة في الهندام، متجذرة في سلوكها العام. والأناقة هنا بالأذواق، شديدة التنوع، تبدأ بالشعر ولا تنتهي باللباس والإكسسوارات.. فضلاً عن عمليات التجميل، وهي ذائعة، وأحياناً ممْعنة في الذيوع. ومن أطرف النُكَت التي خرجت في هذه الثورة، والنُكَت كانت زادها اليومي، أن اللبنانيات متحسّرات، منتْكسات، على الرغم من بهجتهن بالثورة، بسبب إلغاء حفل انتخاب ملكة جمال لبنان لهذا العام، وبالتالي، عدم مشاركة لبنان في حفل انتخاب ملكة جمال الكون لعام 2020.. ونكتة أخرى، أنقلها حرفياً: "من فوائد إلغاء انتخاب ملكة جمال لبنان هذه السنة أننا سوف نرتاح من المرشحات اللواتي كاتبهن المفضَّل هو جبران خليل جبران".
واللبنانيات في هذه الثورة هن محورها، بدايتها. لسنَ، كما اعتدنا مع الأحزاب العقائدية، ذريعة، 
أو مجرّد حشد شعبي، يلوذ إلى البيت بأمرٍ من الأمين العام أو القائد، بعدما يكنَّ لعبنَ الدور المشهدي المطلوب منهن. بالعكس تماماً، هن اليوم في الطليعة: دروع بشرية، قائدات تظاهرات، هتّافات، ناشطات، منسقات، تقنيات، منظِّمات، طباخات، فنانات، صاحبات رأي، راويات لعذابات، إعلاميات ميدانيات ومحاورِات، محلِّلات، لا بل مرشحات في الوزارة المنتظرَة...
من أين لهن كل هذه القوة؟ من صفائح الزلزالية التي يعشنَ فوقها. صفائح تكْتونية خطرة، تجمع بين الحرية والمظلومية: حرية من نظامي الحرب والسلم، اللذين لم يتوقفا، ومنذ ما يقارب نصف القرن، عن دفعهن إلى الاعتماد على أنفسهن؛ حتى لو كنَّ من صاحبات الحظوة والامتياز. في أبسط يومياتهن، كما في أعظمها؛ أن "تتدبَّر" المرأة اللبنانية حياتها، أن تمعن في النظر فيها، وتنقل إلى بناتها مهارات هذا التدبّر، فمراكمة شاقة ومضْنية، من النوع الكمّي، أدّت إلى تغير نوعي في شخصية اللبنانية، فاتحة على ذهنها أبواب حرية جديدة، تُعرف بمسؤولية القرار، أي حريته؛ يؤازرها عالمياً صعود النساء إلى قمم غير مسبوقة في التاريخ. ولكن مظلومية أيضاً: فاللبنانية ضحية قوانين شخصية دينية، مجحفة ومُغلقة، يتفاوت الإجحاف فيها بين الطوائف المختلفة. ولكنه يبقى متحكّماً بأهم محطات حياتها: أي ولادتها وزواجها وحضانتها أطفالها وإرثها وموتها. وقد تكون السيدة بادية فحص، الوجه الأكثر تمثيلاً لهذه الازدواجية الخلّاقة: فهي الكاتبة الحرّة، اللامعة، النازلة إلى الثورة منذ أيامها الأولى، لم تجتمع بابنها إلا في تلك الساحة، وبعد إحدى عشر سنة من حرمانها من رؤيته، وبقرار من إحدى المحاكم الدينية اللبنانية. وإلى جانبها زوجات لفلسطينيين وسوريين ومصريين، انخرطن في الثورة رافعاتٍ حق أولادهن بالجنسية اللبنانية. وقد حرمتهن منها الدولة اللبنانية، وزاد عليها طيناً تصريحات جبران باسيل، إياه، المفْعمة بالعنصرية ضد الأزواج العرب.
ولكن، حذارِ من المبالغة في ما صار معروفاً، وعلى نطاق عالمي، بملاطفة النساء، كيفما كانت شخصيتهن أو توجهاتهن. وشعار "الثورة امرأة" أو "أنثى"، هو من صميم هذه المداهنة التي 
صارت تنتمي إلى "الصواب السياسي" (political correctness): الذي يرى في كل امرأة تجسيداً للتغيير، أو الثورة. ولبنان، المتأثر دائماً برياح الخارج، تلقف هذا "الصواب"، في كثير من أوجه حياته العامة. فصرتَ ترى، مثلاً، تعيين امرأة وزيرة، بحقيبة مهمة أو هامشية، من أيٍّ من الأحزاب الطائفية الحاكمة، كخطوة "تقدمية"؛ ترفع رأس زعيمها وتقلّل من اسوداد صورته واهترائها. بل في قلب المجتمع المدني نفسه، وجوه من هذا القبيل، تُخفي خلف ثرثراتها النسوية طموحاً لتبوؤ موقع "قيادة" الثورة، بشرعية تلك "الصوابية" وحسب. وهذا الشعار، "الثورة امرأة"، فوق توظيفاته الديماغوجية، هو شعارٌ إقصائي، يفعل تماماً ما فعلته الذكورية الإقصائية، ولكن مقلوباً: كانت الثورة من زمان فعلاً رجولياً بحتاً، وصارت، مع هذا الشعار فعلاً أنثوياً صرفاً. وهذا من دروب القضاء على الثورة نفسها، فالفشل الذي لازم الثورات السابقة، كان من بين أسبابه إبعاد النساء منها، وتحميلهن، عبر الشهداء، فجيعة موت الأبناء، أو استشهادهم. كان إبعاداً وتسخيراً لأسمى مشاعر النساء، أي الأمومة. وها هو الشعار يخرجهن من "نصف السماء"، ليضع الرجال مكانهن، كفعل ثأر من التاريخ، ربما. وهذه نقطة ضعف مقلوبة، تعبِّر بدورها عن فائض جديد، هو فائض الحق. ومن يملك الفوائض يملك سلطة أيضاً، ولو كانت جنينية. وهذه أنواع السلطات يعقوبية، تقاصِص بروح المستعجل لإحقاق هذا الحق. وهذه طريقٌ أخرى نحو الفشل، أيضاً، فلا تنجح ثورة من دون الرجال: الرجال الرجال، أعني..

دلالات