ملاحظات على احتجاجات إيران

ملاحظات على احتجاجات إيران

27 نوفمبر 2019
+ الخط -
يبدو واضحا من طريقته التي تعامل بها مع الاحتجاجات أن النظام الإيراني لم يكن مستعدا لأخذ أي مخاطرة في محاولة تلبية مطالبها، فلجأ، منذ اللحظة الأولى، إلى أعلى درجات القمع لإخمادها، معطيا بذلك "درسا" لحلفائه في العراق ولبنان في كيفية إخماد أصوات الناس. وعلى الرغم من النبرة الاحتفالية التي أبداها رموز النظام بانتصارهم على ما سموها "المؤامرة"، إلا أن خطابهم كان يوحي بتخوفاتٍ من إمكانية حصول موجاتٍ أخرى، فإيران لا تواجه فقط صعوبات اقتصادية ومعيشية ضاغطة، يتوقع تفاقمها خلال الفترة المقبلة بسبب العقوبات الأميركية، بل تتوفر أيضا لديها عوامل بنيوية طالما شكلت محرّكا رئيسيا لتاريخ طويل من الاحتجاجات، بما فيها جغرافية البلد وديمغرافيته. فإضافة إلى طبيعة إيران الجبلية، حيث يقيم أكثر السكان، والتي تساعد في الحفاظ على خصائصهم الاجتماعية والثقافية واللغوية المتفرّدة، يعاني هؤلاء من شعور بالتمييز والتهميش. ومع أن إيران دولة شيعية بنص الدستور، إلا أنها متنوعة قوميا ومذهبيا، إذ يشكل الفرس نحو 55% من سكانها فقط، ويوجد إلى جانبهم مجموعات إثنية وقومية كبيرة من العرب والترك والكرد، والأذريين، والأوزبك والبلوش وغيرهم. وفي إيران أيضاً أقلية سنية كبيرة تتجمع في ثلاث مناطق في الشمال الشرقي، الشمال الغربي، والجنوب الشرقي. ويبدو هؤلاء، بسبب سياسات التمييز التي يواجهونها، في حالة جهوزية دائمة للتمرّد بمجرد اندلاع أي شرارةٍ مهما كانت صغيرة. هذه التركيبة الإثنية والقومية والنزعة الاحتجاجية التي تعزّزها سياسات الدولة تجعل النظام الحاكم في طهران في حالة توتّر واستنفار دائم، ومستعدا سريعا لاستخدام أقصى درجات العنف، لمواجهتها خشية أن يؤدّي أي اضطراب داخلي إلى انهيار النظام المركزي كله، كما حصل أيام الثورة الدستورية (1905-1911) والثورة على الشاه (1977-1979). 
فوق ذلك، تُعَد موارد إيران غير النفطية محدودة، بحكم طبيعة البلد وجغرافيتها المعقدة، وهي غير كافية بالتالي لتلبية احتياجات عدد سكانها المتزايد، والحفاظ على سياسات الدعم الاقتصادي في ظل التهديدات والضغوط الخارجية. ويشكل هذا الأمر التهديد الأكبر للنظام، الذي، وإن كان يحظى بقاعدة دعمٍ لا يُستهان بها، إلا أن هذه القاعدة تتآكل بسرعة مع نضوب الموارد وتلاشي قدرة الحكومة على تلبية تطلعات جمهورها. وتزداد الأمور سوءا بسبب فشل الإدارة الحكومية وانتشار الفساد وضعف الشفافية واستمرار الاعتماد على تصدير النفط الخام، باعتباره المورد الرئيس للخزينة العامة للدولة (وقد توقف أخيرا بسبب العقوبات الأميركية)، فضلا عن العلاقات المعقدة مع دول الجوار ودول الغرب، وعموم دول العالم.
وعلى الرغم من أن إيران تملك ثالث احتياط نفط في العالم وثاني احتياط غاز، إلا أنها تعد مع ذلك بلدا فقيرا نسبياً. وفيما تحتل إيران المرتبة رقم 25 لجهة حجم الاقتصاد (يبلغ بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي نحو 458 مليارا عام 2019)، لكنها تقع في المرتبة 66 على مستوى دخل الفرد (14 ألف دولار سنويا) أي نصف دخل الفرد في تركيا وربع دخل الفرد في السعودية، وهي تأتي، في هذا السياق، بعد بنما وموريشيوس وروسيا البيضاء. والسبب عدم كفاءة الصناعة النفطية الإيرانية، وفشل متراكم في السياسات الحكومية، والعقوبات الاقتصادية الغربية. كما تلعب جغرافية البلد دورا رئيسيا في ذلك أيضا، فأكثر سكان إيران يتركزون في مناطق جبلية وعرة، والمناطق الجبلية لا تعد بيئة صديقة للأعمال، لأن تكاليف النقل تجعل إمكانية تطوير قاعدة صناعية واسعة أمرا صعبا. وفي العموم، تكون المناطق الجبلية المتباعدة المأهولة فقيرة، وإذا كانت مأهولة جداً تكون عادة أكثر فقراً.
جغرافية إيران الصعبة وعدد سكانها الكبير وحقولها النفطية المتهالكة وعدم القدرة على تطوير صناعة وقيام زراعة بسبب طبيعة أرضها، وسياسات حكومتها، خصوصا منذ الثورة، والعقوبات المفروضة عليها، وتكريس جزء من مواردها وطاقاتها لمغامرات خارجية، يضع إيران في وضعٍ صعب من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، ويؤثر من ثم على استقرار النظام وقدرته على الاستمرار في حكم البلاد، في ضوء عجزه عن توفير متطلبات الحياة لمجتمع شاب ومتعلم، لا تني توقعاته ترتفع وطموحاته تتنامى. لهذه الأسباب، لم تنته متاعب النظام بقمع الاحتجاجات، بل ربما صارت أكبر.