رداً على خديجة جعفر: قراءة خاطئة للتدخل التركي

رداً على خديجة جعفر: قراءة خاطئة للتدخل التركي

26 نوفمبر 2019
+ الخط -
تبدأ الكاتبة خديجة جعفر مقالها "هل كان التدخل التركي لصالح الثورة السورية؟" في "العربي الجديد" (20/11/2019) بإطلاق حكم تعسفي يصادر على المطلوب، حينما تكتب أن التدخل التركي في سورية لم يكن لصالح الثورة، بل كان لأجل مصالح الدولة التركية. ثم تبدأ بمقدمة نظرية مفادها أنه "يصعب التصديق ونحن نعيش في عصر الدولة القومية أن تتدخّل دولةٌ ما في أراضي دولة أخرى لدوافع وأسباب بخلاف مصالحها القومية، سواء البعيدة منها أو القريبة". وبعد هذه المقدمة، تنتقل جعفر إلى استقراء الواقع، فتعرض مسار تطور الأحداث في الشمال السوري منذ لحظة الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وانتهاء بسيطرة الوحدات الكردية على مساحات كبيرة على الحدود مع تركيا. وتتابع أن هذا الواقع هو الذي دفع تركيا إلى شنّ عملياتها العسكرية في الشمال السوري (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام) لتحجيم "قوات سوريا الديمقراطية". ثم ينتهي المقال بأنه "كان توفير منطقة آمنة للسوريين اللاجئين في تركيا أو السوريين الفارّين من القصف الروسي في إدلب مكافأة للفصائل الثورية السورية على حربها مع الأتراك، ولم يكن التدخل التركي لصالح الثورة السورية إذن، ولم يستفد السوريون سوى من شريط حدودي شمالي يقيمون فيه آمنين من القصف الروسي".
سأعتمد النهج نفسه الذي اتبعته الكاتبة جعفر، البدء بمقدمة نظرية، ثم القيام بعملية استقراء للواقع السياسي والعسكري منذ بداية الثورة... لنتخيل أن تركيا ليست دولة مؤيدة للمعارضة السورية، بل مؤيدة للنظام، فكيف سيكون المشهد؟ لم يخطر على بال الكاتبة طرح هذا السؤال بأثر رجعي. ولو فعلت ذلك لبان لها المشهد على النحو الآتي: النظام يسيطر على كامل الجغرافيا السورية، لا وجود لأي فصيل عسكري معارض على الأرض، لا دولة حاضنة للمعارضة السياسية، لا بلد حاضن لملايين السوريين. سيكون هذا المشهد المفترض حقيقيا لو وقفت تركيا على الضفة الأخرى من الثورة السورية.
انتقالاً إلى استقراء الواقع وتطوره عبر تلخيص الدور السياسي ـ العسكري التركي، قبيل ظهور التهديد الكردي... في 16 إبريل/ نيسان 2011 شهدت إسطنبول أول اجتماع لشخصيات معارضة. ثم تبعه في 1 يونيو/ حزيران مؤتمر أنطاليا تحت شعار "المؤتمر السوري للتغيير". وفي 16 يوليو/ تموز شهدت إسطنبول مجدّداً اجتماعاً لنحو مائتي شخصية سورية معارضة. وفي نهاية أغسطس/ آب، أعلن سوريون من العاصمة أنقرة تأسيس المجلس الوطني الانتقالي، لكن المجلس لم يرَ النور إلا في إسطنبول بداية أكتوبر/ تشرين الأول. هل كان يمكن أن تحصل هذه الاجتماعات، لولا وجود مناخ سياسي داعم للثورة السورية ومطالبها؟ صحيح أن تركيا فرضت على المعارضة السياسية القبول بمسار أستانا واجتماع سوتشي، لكن القبول التركي هذا كان اضطرارياً، لأنها لم تحصل على أي شيء من الولايات المتحدة التي بدأت تتنازل شيئاً فشيئاً عن ملفاتٍ كثيرة لصالح روسيا، غير أن الدور التركي هو الذي حال دون 
سطوة روسيا على العملية السياسية، أو على جزء من هذه العملية كما جرى في اللجنة الدستورية.
على الصعيد العسكري، ماذا يمكن القول عن وضع محافظة إدلب التي انتزع السيطرة عليها جيش الفتح (جبهة النصرة، هيئة أحرار الشام) عام 2015 بعد معارك عنيفة مع النظام؟ هل كان الدعم التركي لفصائل المعارضة مرتبطاً بتهديد الوحدات الكردية؟ ولماذا تدافع تركيا إلى اليوم عن "هيئة تحرير الشام"، وتجابه الموقف الروسي في المحافظة؟
لا يمكن اختزال الموقف التركي من الثورة السورية بمجرد أنه يعبّر عن المصلحة القومية العليا لتركيا، ولو كان الأمر كذلك فقط، لما وقفت أنقرة منذ 2011 مع الثورة ضد النظام. ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجاهة ما تراه جعفر، لكن خطأها في أنها رأت جزءاً من اللوحة، فالمصالح السياسية أعقد من أن نفسّرها بطريقة أحادية، فضلاً عن أن في طريقة عرضها مقالها ما فيها لتوجيه الانتباه إلى أن تركيا قد تفعل بالمعارضة السورية كما فعلت الولايات المتحدة بـ "قوات سوريا الديمقراطية"، وهذا غير صحيح، ويدل على المقاربة الخاطئة للكاتبة.
الفرق بين الحالتين كبير: المصالح الأميركية في سورية عابرة، وتتطلب تحالفات عابرة، في حين أن المصالح التركية في سورية مستدامة، وتتطلب تحالفاتٍ مستدامة. وفي هذه الحالة، يصعب القول إن التدخل التركي كان من أجل مصالحها فقط، إنها شراكة لما يرغب الطرفان في أن تكون عليه سورية مستقبلاً. لا يمكن نكران المصلحة التركية، وهذا طبيعي في السياسة، حيث تتقاطع المصالح، فلا يوجد تحالفات وخلافات وتحزبات في ذاتها ولأجل ذاتها، إنما هي تقاطع المصالح وتضاربها. وتشكل العمليات العسكرية لتركيا في سورية (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام) مثالاً على ذلك، فالمصلحة التركية تقاطعت مع مصلحة المعارضة، وبسبب هذا التقاطع حصلت المعارضة على منطقة جغرافية لم تكن واقعاً لولا تركيا.
العمق الاستراتيجي الذي تشكله تركيا لفصائل المعارضة العسكرية هو الذي جعل الشمال الغربي من سورية مختلفاً عن باقي المناطق التي انسحبت منها المعارضة رغماً عنها.