الحجاب.. فريضة من؟

الحجاب.. فريضة من؟

26 نوفمبر 2019

(Getty)

+ الخط -
جدل الحجاب من جديد. فنانة مصرية تخلع الحجاب، فتشتعل مواقع التواصل. آيات وأحاديث لإثبات جريمتها، وشتائم لها ولأسرتها، ووصفها بالمخادعة حين تبكي من جرّاء الهجوم عليها. آخرون يكتبون في تفسير الآيات، ويروْنها لا تقطع بتغطية الرأس، إنما بتغطية الجيوب، ومواضع الفتنة من الجسد التي لا تختلف في تقديرها ثقافتان، وكذلك الأحاديث "الصحيحة" التي تستعرض واقع التطبيق في صدر الإسلام، وفقا لثقافة المرأة العربية التي كانت تغطي رأسها في جاهليتها، هي والرجال، سواء بسواء، اتقاءً لحر الشمس، واستمر ذلك ثقافةً لا دينا. يتجاوز الجدل النصوص إلى الحريات الشخصية، في محاولةٍ للوصول إلى نقطة اتفاق، وهي أن يلبس من شاء ما شاء، وأمره إلى ربه، يتفق بعضهم، ويرفض آخرون، وهم الأغلبية، بطبيعة الحال، فالدين ليس بمزاجك، الحجاب فرض، وفرضه فرض.
يتدخّل الأزهر، مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، وفخامة الاسم تكفي. يصدر بيانا عاجلا، يقول: "الحجاب فرضٌ ثبت وجوبُه بنصوصٍ قرآنيةٍ قطعيةِ الثبوتِ والدلالة لا تقبل الاجتهاد، وليس لأحدٍ أن يخالف الأحكام الثابتة، كما أنه لا يُقبل من العامة أو غير المتخصصين، مهما كانت ثقافتهم، الخوض فيها".
تمنيت أن يفتح الأزهر النقاش، فإذا به يغلقه. تمنّيت أن يتحدّث عن انحيازاته بلغةٍ علمية، عاقلة، فإذا به يتحدث كأنه "أكّاونت" لمتديّن غاضب. تمنّيت أن يلتفت إلى أدلة المخالفين، ويناقشها بهدوء، فإذا به يجرّدهم من حقهم في الاختلاف أصلا، فالحكم ثابت، والاجتهاد مرفوض. ممنوع الكلام، على طريقة القبض على صحافيين بتهمة الصحافة، الفرق أن الأزهر ليس مسلحا بعد. يتجاوز الأمر التماهي مع رؤية الدولة إلى التماهي مع خطابها، طريقة "النعناع في الأوتوبيسات" (وفق مسرح محمد صبحي)، الزبون الذي يرد البضاعة لا تشرح له، ألصقها على قفاه.
يقولون إن سبب الخلاف أن الآيات ليست قطعية الدلالة؟، حسنا، الأزهر يرد: بل هي قطعية الدلالة، انتهينا. يقولون إن الآيات تقبل الاجتهاد، وهو حال تسعة أعشار القرآن، إن لم يكن أكثر. حسنا، الأزهر يرد: لا، الآيات لا تقبل الاجتهاد، انتهينا. الخلاف تعرّض له علماء وباحثون ومثقفون ونسويات؟ إي نعم، ومنهم أزهريون، تحميهم الدولة، ولذلك تجرأوا وطرحوا وجهة نظرهم (على خفيف) وآخرون ينطحون الصخر، ولا يجرؤون على الكلام، إلا في دوائرهم الخاصة. يعلم أصحاب الفتوى ذلك، ثمّة كتب عن عدم فرضية الحجاب، كتبها علماء كبار، ولم تجد طريقها للنشر بقوة المؤسسة. نعلم ذلك، لكننا نقرّر بوضوح: فتاوى عدم الفرضية تأتي من عوام، وغير متخصصين، وإن قال بها شيخ المشايخ، "حد له شوق في حاجة؟"، أخيرا، وهو أكثر أجزاء البيان كوميدية: الحجاب "فطرة" بشرية، هكذا يقرّر "الذكر" الأزهري من دون الأنثى، ولا يلوي على شيء، فطرة نساء العالمين في التزين تحوّلت، بقدرة قادر، إلى "فطرة" في التخفي، "وإذا كان عاجبك"، الحجاب فطرة، والسيسي صادق، والزمالك قادم، ولا تخرج قبل أن تكون سبحان الله.
لا يحاول هذا المقال إقناعك بفرضية الحجاب من عدمها، براحتك. إنما يحاول إقناعك بأن الشيء الوحيد الذي ينبغي أن يتفق عليه الجميع هو "الاختلاف"، لا بوصفه واقعا، فهو بالفعل "واقع"، إنما بوصفه حقا، لا ينبغى أن ندفع ثمنه من دمنا وأعصابنا، ولا ينبغي أن يكون له ثمن أصلا، فهو كالهواء، نتنفّسه لنحيا، وأي محاولةٍ لتلويثه بعوادم المؤسسة، وقوة الدولة، واحتكار التخصص، ما هي إلا جريمة، لخنق الدين والدنيا معًا، أصحابها مدّعون، ليس لديهم ما يضيفونه سوى تحريم فعل "الإضافة" نفسه، وتجميد أوضاع الحياة على ما هي عليها. وذلك أحد أهم ضمانات استمرارهم. ما تشير إليه اللحظة أن الحجاب "فرضٌ اجتماعي وسياسي". هنا لا يختلف اثنان، أما الدين فأمره إلى معتنقيه، لا إلى ممثليه الرسميين، وحدهم. كل مسلم صاحب حق في دينه، وكل من يعرف العربية صاحب حقٍّ في طرح قراءة. وطالما أن ثمّة خلافا، فإن ادعاء الحسم تزوير وتضليل ودفن للعمائم في رمال التنطع والعنجهية الفارغة، وإنْ صوت له ملايين "الأتباع"، فالحرية ليست بالصندوق، الحرية فرض.

دلالات