كيسنجر في بكين

كيسنجر في بكين

25 نوفمبر 2019

كيسنجر في بكين: حافة حربٍ باردة (21/11/2019/Getty)

+ الخط -
للخبر وجهان، أولهما أن هنري كيسنجر في السادسة والتسعين من عمره، ويزور بكين هذه الأيام، للمشاركة في "منتدى الاقتصاد الجديد"، الأمر الذي يبعث على الدهشة من طاقة هذا العجوز، ومن مدى توطّن الموضوع الصيني في مداركه. وثانيهما أن الوزير الأميركي العتيق، حذّر، في كلمته في المنتدى، من حربٍ أسوأ من الحرب العالمية الأولى، جرّاء الصراع التجاري الجاري بين الولايات المتحدة والصين، وقال إن البلدين يقفان عند حافّة حربٍ باردة جديدة. كيسنجر هنا أشبه بواعظ بلا أي سلطة، فهو غير وزير الخارجية الأميركي الذي غافل مرافقيه في زيارة إلى باكستان في العام 1971، وطار من هناك سرّاً إلى الصين التي كان قانون بلاده يحظر على الأميركيين السفر إليها، ليدشّن إنجازه التاريخي، أي بناء العلاقات الأميركية الصينية التي اندفعت تتحسّن باضطراد، وتتطوّر، بعد زيارة الرئيس الأميركي، نيكسون، في 1972، بكين، واجتماعه بالزعيم ماو تسي تونغ ورفاقه في قيادة الدولة الشيوعية الكبرى. ولأن المياه التي جرت بعد ذلك الحدث أعقدُ من أن يوجزها تعليقٌ مرتجل، كما الذي يكتبه صاحبُه هنا من بكين، فإن الأنسب للتوقف عنده أن وزير خارجية الصين، وانغ لي، يقول، يومين بعد "تحذير" كيسنجر المستجد، إن الولايات المتحدة أكبر مصدرٍ لعدم الاستقرار في العالم، وإن السياسيين الأميركيين يشوّهون سمعة بلاده في العالم. وبإعلانه هذه الغضبة الصريحة في اليابان، يؤكد الوزير الصيني نشوب الحرب الباردة المتحدث عنها، وليس حافّتها فقط ربما، ولكنها من غير اللون الذي كان كيسنجر من أبطاله، لما أراد لعبا بورقة الصين في منازعة الاتحاد السوفييتي الذي كانت 33 فرقة عسكرية منه تُرابط على حدوده مع الصين في عام سفرة كيسنجر السرّية تلك، على ما كتب في مذكراته لاحقا، مشيرا إلى زيادة عدد الفرق من 21 فرقة في عام 1969. 
لم تعد الصين شيوعيةً إلا في هيمنة الحزب الشيوعي وقياداته على الدولة، وليست اشتراكية تماما، ودارسوها يعدّدون مظاهر رأسمالية تفوق ما قد تكون ملحوظةً من علائم الاشتراكية. ولا يخفى أمر كهذا أمام ناظر عابر في شوارع بكين وميادينها وساحاتها. وقبل ذلك وبعده، لم تعد الصين ماويةً، فلا مبالغة في الزعم إن لا شيء من الماوية قائم الآن في هذا البلد الذي قامت جمهوريته الشعبية في 1949، بقيادة الزعيم التاريخي ماو تسي تونغ، والذي يبدو الحفاظ على طقوسية إجلالِه واحترام مهابته من لوازم المشهد العام وضروراته في هذه البلاد. وقد عاين صاحب هذه الكلمات شيئا من هذا، وهو يدخل إلى مبنى ضريح ماو في ساحة تيان آن مين في بكين، مع طوابير من صينيين بورود بيضاء، يعبرون إلى حيث الجثمان في مدفن بالغ الفخامة. وقيل لي إن صورة ماو في واجهة مدخل المدينة المحرّمة (القصر الإمبراطوري) أمام الساحة الشهيرة ربما تكون الوحيدة لهذا الزعيم المُهاب في ميدان عام في كل الصين. ومن مفارقاتٍ دالة أن الرئيس دينغ شياو بينغ (توفي في 1997 عن 92 عاما) هو من وضع هذه الصورة، وهو الذي أخذ الصين إلى المجرى العام الذي تمضي فيه، ويبتعد عن الماوية، منذ بدأ هذا الرجل ورفاق مناصرون له مسارا إصلاحيا متدرّجا، بدءا من خواتيم السبعينيات، عناوينه الأهم الإفادة من الاشتراكية بما يدفع عجلة النمو والنهوض والإنتاج في الدولة، مع الإفادة من كل منجزات الآخرين، رأسماليين وغيرهم، عملا بقاعدة أشهرها دينغ نفسه في خمسينيات القرن الماضي، مفادها بأنه ليس مهما أن يكون القط أبيض أو أسود، وإنما أن يصطاد الفئران.
كانت الشيوعية والماوية في أوجهما هنا لمّا تصالحت معهما الولايات المتحدة في الصين، في خيارٍ رآه الخمسيني في حينه، كيسنجر، بالغ الاستراتيجية. ثم في غضون اشتراكية أقل وماويةٍ غائبة يشتد شقاق واسع بين البلدين، سيما وأن دونالد ترامب يقيم في البيت الأبيض، لا قيمة في مداركه لمقولات التعاون والتفاهم، يعتنق عقيدة التغلب، ولكن حصاده شحيح في أمر الصين، ولسان حال أهل هذه البلد وقادتها يقول إنْ أرادها الأميركان حربا تجارية، تتوازى مع حرب باردة (أو ساخنة!)، فليكن، فقدرة قططهم على أكل الفئران مهولة، كما تدل شواهد وفيرة، لعل منها أخيرا قدوم رجل في السادسة والتسعين اسمه كيسنجر إلى بلدهم، ليحذّر مما لا مبرر له، وهو الذي قال، قبل سنوات، إن إنجازات الصين لا تصدّق.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.