شرعنة المستوطنات والموقف الأوروبي

شرعنة المستوطنات والموقف الأوروبي

24 نوفمبر 2019
+ الخط -
أصدرت محكمة العدل الأوروبية، في يوم الثلاثاء 12 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، قراراً تُلزم فيه المنتجات الغذائية القادمة من المستوطنات الإسرائيلية في القدس الشرقية والضفة الغربية والجولان، أن تضع على السلع إشارة إلى مكان إنتاجها.. وتهدف المحكمة من قرارها إلى أن تميز هذه المنتجات بوصفها مواد جرى تصنيعها في أراضٍ خارجة على القوانين الدولية، ولتعطي المستهلك الحق في معرفة المكان الذي جاءت منه هذه المواد. وتبعاً لذلك، يمكنه أن يقرّر فيما إذا كان يريد استهلاكها أم لا.. لا تحظر المحكمة تلك المواد، ولا تحض على عدم شرائها، فقرارها يتكل على المستهلك ذاته، فيما إذا كان لديه الوقت أو الرغبة ليستطلع اللصّاقة التي تحدّد مكان السلعة، ويُعرِض عن شرائها إذا كان يحمل موقفاً سياسياً أو أخلاقياً، مع أن صدورها عن المستوطنات بالذات قد يحفّز آخرين للإقبال عليها، ولكن القرار كله موقف ذو طبيعة أخلاقية يقدّم على شكل موقف سياسي عبر مؤسسة قضائية، فمن الصعب حالياً تحديد أماكن الإنتاج، ويمكن لمنتج أن يتشارك في صناعته أكثر من بلد.. تستغل إسرائيل مثل هذه المناسبات لترفع صراخها بشعارات معاداة السامية، وقد اعتبر سفيرها في الأمم المتحدة القرار تشجيعاً لكل أعداء إسرائيل الذين يتربصون بها. 
يبلغ حجم المواد المستهدفة بقرار المحكمة الأوروبية ما قيمته سبعة عشر مليون دولار، تمثل 1% من مجموع صادرات إسرائيل إلى أوروبا، وتتضمن، بشكل رئيس، زيت الزيتون والنبيذ وبعض الفواكه، تنتجها 156 مستوطنة موزعة ما بين القدس الشرقية والضفة الغربية ومرتفعات الجولان السورية، يقطن هذه المستوطنات حوالي ثلاثة أرباع المليون من الإسرائيليين. ويجب التذكير بأن هذا القرار يستند، أساسا، إلى قرار محكمة العدل الدولية الذي يعتبر المناطق المذكورة آنفاً مناطق محتلة، وتنطبق عليها اتفاقية جنيف الرابعة، من حيث نقل السكان أو استبدالهم، وهو موقفٌ مهم وقرار اعتباري يمكن أن يرفع الروح المعنوية الفلسطينية، من دون أن يؤثر عملياً على السياسات الراهنة لمختلف الدول.. لتبديد الأجواء الإيجابية الناجمة عن قرار المحكمة الأوروبية هذا، يأتي تصريح وزير الخارجية، مايك بومبيو، ليعزّز الموقف الأميركي المعلن المنحاز لإسرائيل بشكل صريح، فبعد أقل من أسبوع على قرار المحكمة، قال بومبيو إن المستوطنات القائمة حالياً في الضفة والقدس والجولان لا تتعارض مع القوانين الدولية!! يبدو التصريح سياسياً محضاً فهو غير صادر عن محكمة أو جهة قضائية أو حقوقية، وكأن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ترغب في تأكيد دعمها الكبير الذي أبدته، منذ وصولها إلى البيت الأبيض، لبنيامين نتنياهو، وبهذا التصريح تزيل كل أثر "نفسي" يمكن أن يصيب الإسرائيليين.
تقف الطبقة السياسية الإسرائيلية الآن على شفا إعادة الانتخابات للمرة الثالثة خلال أقل من عام واحد، وهي إشارة إلى تشرذم الرأي العام السياسي، وقد تداخلت السياسة الأميركية عدة مرات لصالح دعم نتنياهو بشكل خاص، وهي تعتبره شريكاً مناسباً للبدء بإجراءات التسوية النهائية تحت عناوين "صفقة القرن"، ولكن هذه الهبة الجديدة قد لا تندرج في دعم نتنياهو فحسب، بل تعبِّر عن موقف ترامب النهائي من قضية فلسطين. وعلى الرغم من تصريحات مرشحي الرئاسة المختلفين من الحزب الديمقراطي الشاجبة تصريح بومبيو، إلا أن موقفه يرسم سياسة مستقبلية سيسير فيها ترامب، فيما لو أُعيد انتخابه لدورة رئاسية ثانية، وهو يفكر من خلال هذه المواقف أن يحل القضية التي تجاوزت الآن أعوامها السبعين، ليس عن طريق التسوية، بل بدفن القضية كلياً..
لا يكفي رفض دول أوروبية مهمة ما جاء في تصريح بومبيو لإلغاء القرار، أما تداعي الحكومات العربية إلى جامعتهم للتنديد بشرعنة المستوطنات فيحتاج منها إلى جدية أكبر، تبدأ بحل خلافاتها العميقة بين بعضها ومع شعوبها بالدرجة الأولى.