عن الثائر العالمي الجديد

عن الثائر العالمي الجديد

23 نوفمبر 2019
+ الخط -
كان الجو بارداً، لكن الغضب كفيل بتسخين كل شيء. شاهدتهم يتظاهرون قرب مستشفى "إيلنغ هوسبيتال" غرب لندن، يهتفون ويرفعون اللافتات، ويوزّعون منشورات ساخطة. سيتعرض المستشفى لخفض بعدد الأسرّة بها، بناء على تقليص الحكومة البريطانية الإنفاق على هيئة الخدمات الصحية الوطنية. بشكل ما، لا تختلف المسنة البريطانية الأنيقة الغاضبة هنا عن ذلك الطالب الساخط في تشيلي بسبب رفع أسعار المترو، أو الشابة اللبنانية الهاتفة ضد الفساد بعد شرارة ضريبة "واتساب". تظاهر مزارعو بلجيكا وأغلقوا الطرق، احتجاجاً على انخفاض دخلهم من بيع الحليب، بينما نزل سكان الضواحي لاجتياح قلب باريس، بسبب ضريبة ترفع أسعار الوقود، وهو ما فجر احتجاجات في منطقتنا، جديدها الانتفاضة الإيرانية التي تجاوز شهداؤها المائة حتى الآن. 
الملمح الجامع لهذه الحراكات أنها مطلبية اجتماعية واقتصادية مباشرة، وتبدأ تلقائياً بلا تنظيم سياسي ضخم ذي قيادة تتخذ القرار، فضلا عن الغياب اللافت للبعد الأيديولوجي، على الرغم من شيوع مقاربات يسارية شعبية، وإن لم يُطلق عليها ذلك الاسم. ملمح ثانٍ هو عجز الديمقراطية والأنظمة السياسية وليدة ما بعد الحرب العالمية الثانية عن الاستمرار في توليد الاستقرار والرفاهة، مع تجاهل سؤال اتساع اللامساواة.
تسوء الحالة الاقتصادية لعموم البشر في العالم في خط موازٍ لاستمرار تراكم الثروات وتضخمها لدى الفئات الأغنى. ووفقا لمنظمة "مختبر اللامساواة العالمي"، شهدنا عام 2016 حصول أغنى 10% من السكان في أوروبا على 37% من الدخل القومي، وهي النسبة التي ترتفع في الصين إلى 41%، وفي روسيا إلى 47%، لتصل الذروة في الشرق الأوسط 61%. تقرير كريدي سويس الأخير بدوره كشف أرقاماً مشابهة.
بالطبع، تظل الدول الديمقراطية ذات هوامش مرونة أوسع بكثير وآفاق لتغيير ما. وقد نشرت "الغارديان" البريطانية مقالا لطبيب بريطاني يقول إن التصويت في بلده لحزب العمال هو واجبه الوطني، معتبراً أن خطة التقشف للمحافظين بُنيت على قبور آلافٍ ممن لم يُعالجوا. وقبلها نشرت الصحيفة نفسها مقالا لشرطي تحت اسم مجهل، حكى معاناته بعد خفض ميزانية الشرطة، ما أدى إلى عجز وصل إلى 20 ألف شرطي.
وكما يتشابه المتظاهرون، يتشابه الرصاص أحياناً وخطاب السلطة دائماً. فتحت السلطات المستبدة الرصاص على المتظاهرين في إيران والعراق، كما في السودان وتشيلي. ووصف خامنئي المتظاهرين في لبنان والعراق، ولاحقاً إيران، بأنهم "مثيرو شغب"، وخلفهم مؤامرة خارجية، وهي للمفارقة مفردات خطاب خصومه من الحكام العرب، بل يتحدث خطاب اليمين الموالي لنتنياهو عن مؤامرة منظمات المجتمع المدني والحقوقيين ضد إسرائيل، وطرح الكنيست (البرلمان) قانوناً يضيّق على تلقي المنظمات للتمويلات، بل إن الملياردير جورج سورس ضالع رئيسي بالمؤامرة في إسرائيل، كما عند خصومها! في مظاهرة بريطانية ضد استقبال ترامب في لندن، شاهدت من يرفع لافتة "جورج سورس دفع لي لأتظاهر هنا"، في إشارة إلى ترديد اليمين البريطاني بدوره الأقاويل نفسها.
كل يوم يتعزّز سقوط الوسطية المؤسساتية الغربية، وتصعد الخطابات الأكثر حدّة واستقطاباً. الحكومات اليمينية عالمياً قرّرت توجيه اللوم في الأزمة الاقتصادية لأي عامل خارجي: اللاجئون والغرباء دائما حل مناسب. وفي أماكن أخرى، يتم إضافة العودة للدين على طريقة "يزول الغلاء حين تتحجب النساء". تظهر في المقابل ردود أفعال أكثر تمايزاً، مثل خطة حزب العمال الجديدة التي تشمل التراجع عن التقشف وتعزيز ميزانيات الصحة والشرطة، وتمويل ذلك عبر ضرائب جديدة على الأكثر ثراءً، كما تشمل الخطة إجبار الشركات بعد حجم معين على تمليك نسبة من الأسهم للموظفين، وغيرها من البنود الاقتصادية والبيئية الطموحة للغاية. لقد سقطت الوسطية الأوروبية والحكام التكنوقراط المتشابهون.
مهم لنا في العالم العربي أن نرى أنفسنا جزءاً من الحراك العالمي. أزمة عجز الحكومات أمام "التجنب الضريبي" من الشركات متعدّدة الجنسيات هي أزمة عالمية، ومن نتائجها تعزيز "اللامساواة" العالمية، وبالتالي فإن حلاً جذرياً لن يحدث بدون تحرّك عالمي أيضاً.

دلالات