نحو قطب يساري في المغرب

نحو قطب يساري في المغرب

21 نوفمبر 2019
+ الخط -
ليست الأحزاب السياسية الوطنية التي نشأت منذ عقود داخل المجتمع المغربي مِلْكاً خاصاً للمنخرطين فيها، والمتعاطفين مع خياراتها السياسية، ولا تعتبر فضاءً سياسياً خاصاً بالأعضاء الذين ساهموا في لحظة من تاريخ المغرب السياسي في تأسيسها. إنها إضافة إلى ذلك، تُعَدُّ جزءاً من الرأسمال السياسي الرمزي للمجتمع المغربي، بمختلف المكاسب والخيبات التي تخللت مساراتها، والآفاق التي ما تزال تُرسم لها. أما المواقف التي تتحدّث اليوم عن موتها أو انبعاثها من جديد، أو تحويل الأفق الذي نشأت في إطاره نحو أفق آخر مرتبط بمقتضيات الحاضر وأسئلته، فإن أصحابها لا ينتبهون إلى أن هذه الأمور تندرج ضمن ما هو طبيعي في الحياة السياسية.
ما يدعو إلى رسم الإشارات السابقة، الموقف الذي أعلنه حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بمناسبة احتفاله يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بمرور ستة عقود على ميلاد نواته الأولى، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، سنة 1959. منفصلاً عن حزب الاستقلال، ورافعاً مشروع بناء الدولة الوطنية وتحرير الاقتصاد الوطني في أزمنة الاستقلال الأُولَى، إضافة إلى دوره البارز في بناء ثقافة الانفتاح على العصر وخياراته الكبرى في الفكر والسياسة.
تمثَّلت قوة الحزب خلال عقدي الستينيات والسبعينيات في عمليات نسجه وشائج متينة من القربَى، مع مختلف بنيات المجتمع المدنية والنقابية. كما تمثَّلت في انفتاحه وانفتاح مشروعه في الإصلاح 
على مختلف المكاسب الكبرى للثقافة المعاصرة، فقد كان، في سنواته الأولى، اتحاداً للقوى الحية في مجتمعنا، اتحاداً للتعبير عن طموحاتها الكبرى في التغيير والتقدم. وإذا كانت مظاهر تراجعه اليوم تتمثل أساساً في الانقسامات المتكرّرة التي طاولته خلال العقود المنصرمة، كما تتمثَّل في إغفاله مقتضيات التحوّل التي انخرط فيها مجتمعنا، ومتطلبات التغيير التي أصبحت اليوم عنواناً لمجتمعٍ لا علاقة بينه وبين الشروط السياسية والتاريخية التي أطَّرت وجوده في سنوات تبلوره الأولى. إضافة إلى تجليها أيضاً في ركونه إلى خياراتٍ وتصوُّراتٍ لم تعد مطابقة لروح ما عرفه ويعرفه المجتمع المغربي من تحولات.
يتطلَّع الاتحاديون اليوم، وهم يحتفلون بذكرى مرور ستة عقود على ميلاد حركتهم، إلى لزوم تحيين المؤسسة الحزبية الاتحادية، أي النقد والمراجعة، في ضوء مختلف التحولات ومختلف المعارك التي خاضها ويُواصل خوضها داخل المجتمع المغربي.
وكانت قوة اليسار والثقافة اليسارية قد تمثَّلت خلال العقود الأولى للاستقلال، في الأدوار التي مارسها وهو يدافع عن الخيارات الوطنية والمواقف التحديثية، سواء في سنوات الاستقلال الأولى، أو كما تطوَّرت لاحقاً، بفعل التطلُّعات التي كانت تعبر عنها فئاتٌ كثيرة في المجتمع المغربي، لحظات تبنّيه للمطالب المتصلة بمشروع مجتمع أكثر توازناً وأكثر عدلاً. وإذا كنّا نعتبر أن أسئلة الانتظارات السياسية والثقافية في المجتمع المغربي تدعو اليساريين، أكثر من أي وقت مَضَى، إلى البحث في كيفية تجاوُز مظاهر الخَلَل الحاصل في الجبهة اليسارية في مشهدنا السياسي، أي من دون تشخيص جَيِّد ودقيق لأعطابها، ومن دون سَعْيٍ إلى إعادة بناء الخيارات المناسبة لأسئلة الحاضر وتحدِّياته الكبرى.
معاينة أحوال اليسار المغربي، سواء في تنظيماته، أو في إعلامه ولغته، أو في نمط حضوره في المجال الافتراضي وصُور استخدامه الوسائط الاجتماعية، تُظهِر، بصورة أو بأخرى، بَعْضَ صُور التَّصَلُّب التي لحقته في مشهدنا السياسي. وضمن هذا السياق، نفترض أن جوانب عديدة من 
مظاهر فقره النظري تعود إلى إهماله البعد الثقافي، ومختلف الروافد الفكرية التي نعرف أنها منحته في مختلف أطوار تشكُّله الأولى، القوة واليناعة اللتان كان يتمتع بهما.
يعاني اليسار المغربي من أشكال من التشرذم لا تفاعل بينها وبين تحولات المجتمع والقيم في حاضرنا. صحيحٌ أن هناك اختلافات عديدة بين تياراته، إلاّ أن المُتَابِع لهذه الاختلافات يدرك أنها لا تستلزم بالضرورة إغفال أهمية الجوامع القائمة بينها، وفي مقدمتها متطلبات المعارك والتحدِّيات التي تملأ الواقع الاجتماعي المغربي، وتستدعي التفكير في كيفية تفعيل المسار الوحدوي داخل أحزاب اليسار، والانتقال من التعدُّد إلى القطبية الجامعة، أو من الحزب إلى القطب.
اتجهت كلمات الاحتفاء بالذكرى إلى رسم الملامح الكبرى للأفق الذي يتوخّى الاتحاديون اليوم الانخراط في نسج خيوطه وترتيب ملامحه، أفق قطب اليسار الجامع، وهو مسعى يروم استعادة روح الاتحاد. وقد تَمّ الإلحاح في هذه الروح المطلوبة على ضرورة بناء ثلاث خطوات سياسية، تنطلق من مبدأ تجديد الخيارات الإيديولوجية والسياسية وتطويرها، في ضوء تحولات المجتمع وتحولات النظام السياسي، بهدف التمكُّن من استيعاب روح المتغيِّرات الجارية. ويتطلب هذا الأمر الانفتاح، في خطوة ثانية، على مختلف القوَى المجتمعية المؤمنة بقيم التاريخ والعصر، أي الانفتاح على المجتمع بتنظيماته ومؤسساته المدنية. أما الخطوة الثالثة فتبرز في المساعي المتخذة من أجل بناء قطب يساري جامع، في ضوء قراءة جديدة لمتطلبات العمل السياسي في المجتمع المغربي، وفي ضوء واقع اليسار في العالم.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".