حلم "قسد" من الفيدرالية إلى الفيلق الخامس

حلم "قسد" من الفيدرالية إلى الفيلق الخامس

03 نوفمبر 2019
+ الخط -
"كردستان حلم وأنا لا أحب الأحلام" عبارة ذات دلالة سياسية كبيرة أطلقها رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران، عبد الرحمن قاسملو، قبل اغتياله في أوروبا. وتلخّص هذه العبارة واقع السياسة الكردية التي لطالما دغدغ به السياسيون الأكراد الذين يحتكرون السلطة، والدول الداعمة لهم، مشاعر الناس البسطاء من إخوتنا الكرد لاستغلالهم، من خلال بيع الأوهام ونشر الشعارات الفضفاضة واللعب بعواطف الناس، لتحقيق مآرب ومصالح شخصية وحزبية، على حساب فئة كان جُلّ همها العيش بأمان ومساواة. 
ويعرف المتابعون للشأن الكردي تمام المعرفة أن أحلام قوات سورية الديمقراطية (قسد) في الشمال السوري، والتي تهدف إلى تغيير خريطة المنطقة من خلال تمزيق الدولة والمجتمع، ما كانت لتمرّ مرور الكرام في ظل الحسابات المتداخلة والمعقدة إقليماً ودولياً، وما شهدته الأيام الماضية من أحداث في الشمال والشمال الشرقي من سورية خير دليلٍ على هذا الأمر، والتي قلبت الطاولة فوق "قسد" وحساباتها بعدما عولّوا كثيراً على الدعم الأميركي، لتحقيق شيء من الحلم الكردي، في قيام فيدرالية كردية مفتوحة في شرق الفرات.
هذه الحسابات المعقدة إقليمياً ودولياً، سرعان ما حملت لهم الخيبة من جديد، ووضعتهم في موضعٍ لا يحسدون عليه، إثر انسحاب القوات الأميركية من مناطق الشمال السوري، بعد التفاهم مع 
تركيا، وتخليها عن دعم الكرد في المنطقة، بعد أن كانوا شريكا أساسيا لهم في القضاء على "داعش" في سورية، ليأتي الاتفاق التركي – الروسي في سوتشي، والذي وصف بالتاريخي، ليضيّق بدوره باب المناورة أمام "قسد"، ويجبرهم على الرضوخ للتفاهمات الإقليمية والدولية.
انسحاب القوات الأميركية من الشمال السوري، وانطلاق العملية العسكرية (نبع السلام) التي قادتها تركيا، بالاشتراك مع الجيش الوطني التابع للمعارضة السورية، حقق أهداف أطرافٍ عديدة على حساب "قسد" التي تعتبر الخاسر الأكبر، فهذا الانسحاب حقق رغبة الرئيس دونالد ترامب في الخروج من الشمال السوري، مع الحفاظ على سيطرة القوات الأميركية على آبار البترول. وفي الوقت نفسه، أزاح عن كاهل تركيا إحدى أهم العقبات التي كانت من الممكن أن تعيق عمليتها العسكرية في الشمال والشمال الشرقي من سورية، وبذلك تكون تركيا قد حققت هدفاً جزئياً يتمثل في إبعاد "قسد" التي تصنفها تركيا فرعا لحزب العمال الكردستاني، عن الشريط الحدودي، وإنهاء طموحها بإنشاء منطقة "حكم ذاتي"، من خلال السيطرة على رأس العين وتل أبيض وما بينهما من قرى و بلدات، وبالتالي فصل مناطق سيطرة "قسد" شرقي الفرات بين ما يعرف بكانتون الجزيرة (شرق) وكانتون عين العرب (كوباني) (غرب).
على الطرف الآخر، حقق هذا الانسحاب الأهداف الروسية، من خلال استعادة روسيا، ومن ورائها النظام السوري، الجزء الأكبر من المنطقة إلى سيطرتهم من دون قتال، ومن دون خسائر، والأهم من ذلك أجبر هذا الانسحاب وهذه العملية "قسد" على التوصل إلى الاتفاق مع النظام السوري برعاية روسية، قدمت خلاله تنازلات كبيرة، بعد أن كانت قد رفضت لفترات طويلة تقديمها، بالاستناد إلى الدعمين، الأميركي والأوروبي، والدعم العربي الذي كان يُقدّم لهم.
ويعطي توجه "قسد" باتجاه النظام السوري دلالة واضحة على حجم التنازلات التي قدمتها للنظام الذي كان يُصر دائماً على أن القاعدة الوحيدة للتفاوض معه هي القبول بالعودة إلى ما قبل تاريخ الثورة في سورية عام 2011، وحل كل التشكيلات العسكرية والأمنية، أو دمجها بالمؤسسات الرسمية للنظام، وحل الإدارات الذاتية وعودة مؤسسات الدولة إلى العمل في كل مناطق شرقي الفرات.
هذه التنازلات التي قدّمتها "قسد" ما كانت لتقدمها لولا عملية "نبع السلام" التي أجبرتها على 
الإسراع في المفاوضات السرية التي كانت تجري قبل أسبوعين من العملية، بوساطة قام بها مبعوث بوتين الخاص لسورية، أليكساندر لافرينتيف، حيث أسهمت العملية التركية في تسريع إبرام ذلك الاتفاق، في قاعدة حميميم في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أي بعد يوم من بدء "نبع السلام"، وإجبار قادة "قسد" على التخلي عن طموحاتهم الانفصالية، والقبول بمؤسسات حكم محلي، متواضعة تخضع لحكومة النظام، والموافقة على الاندماج في الفيلق الخامس التابع لروسيا، لتكون بذلك "قسد" الخاسر الأكبر، بعدما بالغت كثيراً في المراهنة على الولايات المتحدة الأميركية، ودعمها لهم من أجل الاقتراب من حلمهم التاريخي في شمال سورية وتحقيق الحكم الذاتي في إطار الفيدرالية، فكما تشظّت الجغرافيا تشظّى الحلم الكردي، خسرت "قسد" أجزاء كبيرة من شمال سورية، مثل عفرين والباب وإعزاز ومنبج وتل أبيض ورأس العين وعين العرب وتل رفعت، وخسرت كذلك تعاطف السوريين الأحرار، بعد تقاربهم مع النظام السوري الذي اضطهدهم زمن الأسد الأب، ومن بعده الابن، من خلال منع الجنسية عنهم ومنعهم من العمل في مؤسسات الدولة وتهميش مناطقهم خدمياً، ليخسر بذلك الأكراد النفوذ السياسي الذي تحقق لهم في أثناء فترة الحرب، ويخسروا مشاركتهم في صياغة الدستور السوري الجديد، من خلال اللجنة الدستورية التي تم تشكيلها أخيرا، بعد أن تم استبعادهم من العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة، ليتحول حلمهم من فيدراليةٍ إلى قوات رديفة، تحت قيادة الفيلق الخامس الروسي، أسوةً بعناصر وقوات بعض مناطق المعارضة التي استطاعت روسيا السيطرة عليها عبر المصالحات في جنوب سورية ووسطها.