أوروبا في خطر

أوروبا في خطر

03 نوفمبر 2019
+ الخط -
منذ عدة أيام، وخلال أسبوع واحد تقريبا، حقق اليمين المتطرّف الأوروبي الجديد انتصارين لافتين في انتخابات محلية جرت في ألمانيا وإيطاليا. وبالإضافة إلى أن الحزبين الفائزين يشتركان في أنهما ينتميان إلى عقيدة كراهية الأجانب والرهاب من الإسلام، فإن القاسم المشترك الثاني الذي أضافته هذه الانتخابات المحلية إلى المشهد يكمن في أن انتصار التطرّف الألماني قد وقع في مقاطعة تورينغ الشرقية، والتي خضعت لسيطرة اليسار الألماني منذ وحدة الألمانيتين، كما أن انتصار الفاشية الإيطالية تم في مقاطعة أومبريا التي كان يسيطر عليها اليسار منذ عقود. 
الخلاصة الأولى توضّح أن اليسار الأوروبي في أزمة حقيقية. وعلى الرغم من أن انتصار التطرّف اليميني الألماني لم يُبعد هذا اليسار عن حكم المقاطعة، ولكنه وضعه في موقف حرج، سيدفع به إلى البحث عن تحالفات صعبة للبقاء. واستطاع التطرّف اليميني الإيطالي أن يُطيح فعلياً اليسار، وأخذ الصدارة ليحكم المقاطعة بشكل مريح مع اليمين الأشد تطرّفاً منه، معيداً بذلك الثقة لزعيمه ماتيو سالفيني، بعد خروجه من الانتخابات في أغسطس/آب الماضي منهزماً. سالفيني الذي يحاول رسم استراتيجيات فاعلة للعودة إلى حكم إيطاليا، توجّه بعد هذا الانتصار المدوي بثقة إلى الحكومة الحالية، معلناً أن "أيامها صارت معدودة".
بعد سقوط جدار برلين سنة 1989، وحيث سيقع الاحتفال بعيده الثلاثين يوم 9 نوفمبر/تشرين 
الثاني الجاري، والذي أفضى إلى إطلاق مسار تحقيق الوحدة بين الألمانيتين، برزت الفوارق الاقتصادية البنيوية بين شطري ألمانيا بوضوح شديد، لم تفلح في الحد من آثاره المبالغ الطائلة التي جرى ضخّها من الدولة في مقاطعاتها الشرقية. وبسبب خضوع الألمان الشرقيين عقودا إلى حكم حزب عقائدي وحيد مهيمن، كان من السهل على الأحزاب اليمينية المتطرّفة أن تجد أرضاً خصبة لأفكارها في شرقي البلاد. كما أن العداء للأجانب في هذه المقاطعات ارتبط، بشكل لا شعوري، بسنوات القحط الداخلي والدعم الخارجي "لأصدقاء" النظام الشيوعي المنهار.
أما في إيطاليا، فيبدو أيضاً أن الأوضاع الاقتصادية التي لم ينجح لا اليسار ولا اليمين التقليديان في تقديم حلول ناجعة لها، قد لعبت دوراً رئيسياً في توجه الناخبين نحو الأحزاب المتطرّفة والشعبوية. كما أن انخراط أعضاء هذه الأحزاب في الحملات، كما في الاقتراع، يُسجّل معدلات عالية للغاية مقارنة بعزوف جزء كبير من المنتمين إلى الأحزاب التقليدية عن هذا. وأخيراً، يلعب الترهيب من الأجانب، خصوصاً المسلمين من المهاجرين، على الصعيدين الألماني والإيطالي، دوراً فاعلاً في تحفيز شعبية قوى التطرّف، في ظل انعدام البرامج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحقيقية، والاستناد دائمًا على عنصر الخوف الذي يُهيمن على جزء كبير من المجتمعات الغربية.
بعد ركودٍ صيفي لأحزاب التطرّف اليميني في أوروبا، أعادت أمطار الشتاء الانتعاش إلى 
حملاتها، وصار الخوف من تقدمها البارز في دول أوروبية عديدة شعارًا للمرحلة المقبلة. وفي المشهد الألماني، كما الإيطالي، هناك حالة إسعافية تهيمن على مسارات القوى التقليدية، للوقوف في وجه هذا التوجه، مع حذر شديد من تقاربات تكتيكية انتهازية من المتطرّفين تميل إلى تبنّيها قوى اليمين التقليدي، سعيًا وراء الاحتفاظ بالحظوظ الانتخابية، ويبدو أن المشهد الألماني، كما الفرنسي، هما الأكثر استعداداً لها. وما يحمي الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا من هذا التوجه مبدئيًا هو قيادة أنجيلا ميركل له، وإصرارها على رفض هذا السيناريو.
في إطار هذا التوجه ـ الجانحة، يبدو أن هناك أدوارا مؤثرة وهامة للعامل الخارجي، فمن نافل القول إن روسيا البوتينية تنشط سياسيًا وإعلاميًا وماليًا في دعم الأحزاب المتطرّفة أوروبيًا، كما هي تدعم الحركات الانفصالية في القارة العجوز، بغرض تفكيك المشروع الأوروبي الذي تتهمه موسكو بأنه لعب الدور الأساسي في تفكيك المشروع السوفييتي. إضافة إلى الدور الروسي التفكيكي، سجّلت الأنباء دوراً خليجيًا تتصدّره الإمارات، وتسانده السعودية، في تمويل مباشر لمجموعات يمينية متطرّفة تجعل من معاداة العرب والمسلمين عصبًا رئيسًا في نشاطاتها. ويصبح من المشروع، والحال كهذه، التساؤل عن الاستفادة المرجوّة من هذه الأنظمة، للوقوف إلى جانب المتطرفين على اختلافاتهم. ومن جهة أخرى، تُساهم أحزاب اليمين المتطرّف الأوروبية في دعم السلطات المستبدّة سياسيًا وإعلاميًا، وحتى من خلال الزيارات التضامنية لعواصم هذه الأنظمة، كما دمشق والقاهرة.
يمكن أن تكون معاداة الديمقراطية قاسمًا مشتركًا يحثّ هذه الدول والقوى والأحزاب على التقارب، فعلى الرغم من أن اليمين المتطرّف الأوروبي يدّعي تمسّكه بالعملية الديمقراطية، لكنه فعلياً يعتبرها، أولاً وأخيرًا، مطيّة للوصول إلى سدة الحكم، والقيام بتقليص الانتفاع منها والحد من مكاسبها. ويتم الاستناد، في هذا المسار، إلى التجربتين النازية والفاشية، فعلى الرغم من النفي العلني لأي ارتباط بهذا الجزء الأغبر من تاريخ أوروبا، صار مؤكدا أن التجربتين تشكلان مرجعية عقائدية لكثير من هذه الأحزاب، فالتحالف طبيعيٌ إذًا بين السلطة الاستبدادية العربية وأحزاب اليمين المتطرّف الغربية التي تتقاسم معها كره الحرية والمساواة وعدم التمييز.