أمجد ناصر.. ثأرنا مع الموت

أمجد ناصر.. ثأرنا مع الموت

03 نوفمبر 2019
+ الخط -
لا ثأر لنا مع الموت، إلا حين يختطف شاعراً مثل أمجد ناصر. في هذه الحال فقط، علينا أن نعلن النّفير العام، لنحصي ما بقي لنا في "الخزينة العامة" من شعراء، وإلا فإننا ماضون، حتماً، إلى "عجز شعريّ" لن تغطيه أموال العالم كلّها، وإن صبّت في خزينتنا. 
وثأرنا اليوم عظيم، برحيل "راعي العزلة" الذي يشدّ إليه ضفتي النهر المقدس، منذ تفتحت عيناه بلا حدود لترى القدس إلى جوار الطرّة، تلك القرية الغافية في حضن الشمال الأردنيّ كسوسنة بريّة، فقرّر، ذات ثورة بعيدة، أن يوزّع جسده على خندقين متجاورين: الأول للدفاع عن الأردن، والآخر لاسترداد فلسطين.
ولأن للثورة مآلاتها المغايرة لبراءة الشعراء، فقد توزّع جسد أمجد لاحقاً على أزيد من منفى واحد، ليجد نفسه "لاجئًا" في بيروت، ونازحاً في عدن، ومقيماً في قبرص، ومهاجراً إلى لندن، وأخيراً إلى "مسقط الرأس" في الأردن، من دون أن ينتهي منفاه بموته؛ لأن الشعرية تأبى إلا أن تقضّ مضجعه الأخير، هذا إذا سلّمنا أنه كان "الأخير".
في تنقله المتواصل، كان يعرف أمجد ناصر، جيداً، أن ما يسيّره جناحان: الثورة والقصيدة، لكن الأول انكسر، فكان يتحتّم عليه أن يطير بجناح واحد، وقد فعل وأبدع، لتصبح القصيدة عنده معادلاً موضوعيّاً لكل خساراته الأفدح برفاق شطّت بهم دروب التحرير، لتقودهم إلى "جبهاتٍ" أخرى، في وغى البورصات وحمّى المساومات على مصائر شعب ووطن.
يُحسب لقصيدة أمجد ناصر أنها نشلته في اللحظة الأخيرة من براثن خيبته بثورةٍ راهن عليها بمستقبله كله، فأصبحت هي ذاتها ثورته الجديدة التي يسكنها وتسكنه، فثار على مألوف القصيدة، ليدمّر النصّ المعهود، ويرعى بقلمه على أرض الورق، مكتشفاً حقولاً مجهولة صالحة للرعي واللعب الطفوليّ الذي لم يفارقه من حقول الطرّة إلى حقول الشعر. لا يحاذر شيئاً، بل يترك نفسه على سجيتها تقوده حيث تشاء؛ لأنه يعرف أن لا طريق للشعر غير طريق المتنبّي، متجاهلاً فكرة "الحتف" من أساسها، ومردّداً الشعار ذاته: "يحاذرني حتفي".
كان يحمل ذلك القلق الممضّ نفسه، لأبيه المتنبّي، مدركاً أن النهايات كلها لن تكون سعيدة ما دامت نهايات، على خلاف البدايات التي تظل حاملة دهشة اللقاء الأول، وفرح القوارب التي تغادر مرساها، وصهيل الخيل قبيل انطلاق السباق، فكان له فضل اكتشاف "ضفة ثالثة" كما سمّاها في صحيفة العربي الجديد، آخر محطاته العملية قبل الرحيل، وكأنه يريد بها أن تكون ثالثة الضفاف، إلى جانب الضفتين، الشرقية والغربية، في الأردن وفلسطين، اللتين كان مشدوداً بينهما كانشداد نهر الأردن، فكان يرى نفسه ذلك النهر الذي لن ينضب ماؤه أبداً، كما رأى في "الضفة الثالثة" ضفة للشعر والفن لا مناص من وجودها والدفاع عنها، أيضاً، حتى لا تصاب الضفاف الأخرى باليباس الفني والجفاف الشعري، لأن من يدافع عن فلسطين والأردن كمن يدافع عن محمود درويش ومصطفى وهبي التل.
هو ليس رحيلاً آخر، يا أمجد، بل خطفٌ حتى لو كنا نراه يتسلل إليك رويداً رويداً، لكننا راهنّا على مراوغاتك البدويّة التي نعرفها جيداً. كنا قد اعتقدنا أن ستنجو من الموت كما نجوت من فخاخ كثيرة لازمتك طوال ترحالك المتواصل، غير أنك باغتّنا بأزيد مما تحتمل قصيدتك في عروقنا.
الموت حق؟ هذا صواب، لكنّ الشعر حقٌّ أيضاً، ومن حقّنا أن تضيف لنا ضفة رابعة وخامسة، ما دمت سلكت طريق الفتوحات بسيفك البدويّ اللامع، وعينيك النافذتين. والثورة حقّ ما دامت رسالتها لم تكتمل بعد، وكان عليك أن تنتظر لتحرّر ثورة التحرير ممن غيّر مجراها كما غيّر مجرى نهرك المقدّس في الأردن.
أكرّر: الموت حق؟ ربما، لكن الحياة أكبر حقّاً يا أمجد... ويتعاظم حقّها لمن لم يعشها بعد، أعني مثلنا.

دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.