لا موت.. لا حياة.. في غزة

لا موت.. لا حياة.. في غزة

20 نوفمبر 2019
+ الخط -
رنّ هاتفي التقليدي، بعد الإعلان عن هدنة، ما يعني أن جولة جديدة مع الموت قد انتهت. ذلك الجهاز المنسي على طاولة صغيرة في ركن قصي من البيت، وكثيرون طلبوا مني رفعه، فلم يعد له حاجة، فهناك الهواتف الخلوية، ولكني في كل مرة أشعر معه ببعض الحنين لأيامٍ كنت أتحدث من خلاله بالساعات. ويوم أن سمعتني أمي أخبر زميلة في المدرسة أن "نفسيتي تعبانة" بسبب تعطل الدراسة أكثر من شهر لأحداث انتفاضة الحجارة وقتها. استعاذت أمي من الشيطان الرجيم، وأصدرت قرارا بمنعي من الحديث في الهاتف، لأني أبث إشاعاتٍ سيئة عن نفسي، فلا يوجد في قاموسها بنت متعبة نفسيا، فهذا يعني بوارها وخراب ديارها. 
لم تنزح هذه الذكرى من ذاكرتي إطلاقا، ذكرى منعي من الحديث بالهاتف، وكذلك اعترافي بأني متعبة نفسية، بسبب أحداث الانتفاضة، ووقتها كنت طالبة في التوجيهي، وكنت أشعر بفداحة ضياع الدروس في المدرسة، واقتراب موعد الامتحانات، ولم أكن أرى خسائر أكثر من ذلك، حتى مضى بنا العمر وعشنا أحداث أكثر من عدوان في جولاتٍ متباعدةٍ حينا ومتقاربة حينا آخر على غزّة، فاكتشفت أن ما كنت أشعر بسببه بتعب نفسي كان تافها وحقيرا، مقارنة بما يحدث كل مرة، حتى تصدّعت جدران الروح، وأصبح إصلاحها وإقامتها وهي توشك أن تنهار أمرا صعبا، فالموت ينتشر ببذخ، والحياة تخرج من قطارة دواء بصعوبة، والعودة إلى ما قبل هذا الجنون من الدماء والأشلاء والأنقاض الذي يتشكل أمام ناظريك كخشبة مسرح عبثي ضرب من المستحيل.
ساهم تطور وسائل الإعلام في نقل فداحة المصاب وتضاعف التعب النفسي. وأسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في نشر ما حدث في الأماكن البعيدة، حيث لا يستطيع أحد أن يصل إلى هناك إلا الموت، فوصلت إلينا صور الخوف والجزع ودهشة الأطفال الحزينة، وتساؤلاتهم التي لا تجد أجوبة، ولكنها تسحبهم من أسرّتهم الدافئة وتنثرهم في العراء بعد تطاير سقوف بيوتهم المتهالكة، وبعد أن تتطاير معها أشلاء الأب والأم ويصبحوا بلا حصن منيع ولا سد مكين، وليس أمامهم سوى برودة الأيام القادمة الموحشة القاسية المنذرة بالوجع، وأنت ترى هذا وتشعر وتتألم وترى أن العودة لما قبل هذا أيضا ضرب من الجنون.
عندما يعلن عن هدنة تشعر أن من السخف أن تفكر بأي شيء كنت تفعله قبلها، لا تريد أن تعيد رص الأطباق والأكواب الفخمة اللامعة في خزانتها مقابل طاولة الطعام العريضة، فربما في المرة المقبلة تأتي الحرب، فلا تجد من يتناولها ويوزّعها أمام المقاعد الخشبية في نظامٍ مذهل، فربما أصبحت المقاعد فارغة، وربما بخسارة أقل بكثير تهشّمت الخزانة، وأصبح الكنز الثمين فيها هشيما على الأرض الباردة، فتقرّر أن تترك كل شيء في فوضى عارمة، تشعر بعبثية الترتيب، وهناك خطر داهم بأن يعود الموت ليتجول في الأنحاء، وترى أن من كانوا مثلك يحرصون على الترتيب والنظام، ويتباهون بدقتهم في المواعيد ورتق جوانب الحياة اليومية، قد أصبحوا في أقل من لمح البصر تحت التراب.
عندما تتوقف الحرب تنزاح الغمّة عن عينيك، تكتشف أن الأطفال قد كبروا قبل الأوان، والنساء ترملن مبكرا، والرجال بكوا من هول ما رأوا وفقدوا، وكل مظاهر الحياة والفرح التي كانت قبل ذلك ما هي إلا محاولات خرقاء للنسيان، ففي منطقة منكوبة وموعودة بالموت مثل غزة ترى أن محاولات النسيان تكلف غاليا فذلك الخطر متعدد الوجوه المتربص بك لا تدري متى سيهجم، متى سيرفع سلاحه ويدهمك ويختطف منك أغلى ما تملك، ما لم يقرّر أن يأخذك، أو يبتلع في جوفه العميق ضحكتك وفرحتك إلى الأبد.
غزة، يا رفاق أرض الله المرهقة المتعبة المكابرة العنيدة، مثل امرأة تصارع زوجا سكّيرا يصحو في النهار رائق المزاج، ولكنه منكوش الشعر منتفخ العينين، لكي يذكرها على الدوام أنه سوف يعود إلى السكر والعربدة متى ما جن الليل، ويا ويلها المسكينة حين يجنّ الليل!
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.