لا لهذه الأحزاب

لا لهذه الأحزاب

20 نوفمبر 2019
+ الخط -
لم تجاهر الانتفاضة اللبنانية بكل ما لا تريده بعد، حتى تنتقل إلى قول ما تريده حقاً وكيف تنوي تحقيقه. على المنوال نفسه، فإن فعلها طوال هذه الأيام الثلاثة والثلاثين كان سياسياً بامتياز، ذلك أن السياسة، بمعناها الحقيقي، تختلف كثيراً عن التعريف الذي تريد السلطة حشره برؤوسنا عن أنها حصراً مؤتمر صحافي وانتخابات وزعيم وتدوير زوايا ودبلوماسية وأحزاب. و33 يوماً ليست كثيرة على اعتراف المريض بأعراض مرضٍ أعياه منذ أشهر، فكيف الحال بمجموعة بشر اكتشفوا إمكانية أن يكونوا شعباً لا رعايا، وأن ما كان يحول دون ذلك سلطة طائفية فاسدة، أمعنت في إبقائهم جاليات طيلة عقود. في لائحة ما لا تريده الانتفاضة، تتصدّر لا للطائفية، ولا للفساد، وغالباً ما يأتيان في سياق عبارة واحدة (الطائفية كسبب رئيسي للفساد، وهذه الخلاصة من عيون الكلام)، ولا للطبقة السياسية هذه برموزها العابرين للطوائف، ولا للفرز الطبقي المكرس بسياسات إفقار منظمة تحصر الثروة بنسبة ضئيلة من المصرفيين وكبار التجار ومحتكري الوكالات الحصرية والأسواق المالية والنقدية وبقية القطاعات غير المنتجة، ولا لحكم المصرف المشرف على توزيع الثروة بأبشع صورة ريعية، ولا لاستمرار تابوهات سياسية ممنوع المس بها من شخصيات وزعامات، ولا لهذا العهد الذي يصعب تخيل أسوأ منه ماضياً ومستقبلاً، ولا لبقاء الحواجز النفسية فاصلة بين المناطق اللبنانية. وفي اللاءات التي لا تحصد إجماعاً بقدر ما تحققه الفئة الأولى سالفة الذكر، تأتي لا للعنصرية واللا لتحكم سلاح حزب الله بالبلد ولا لبشار الأسد ولبقية مجرمي العرب، على اعتبار أن الانتفاضة اللبنانية فرد من عائلة الثورات العربية، ولا للمجتمع الذكوري ونواميسه، ولا لقانون الانتخابات الحالي (من دون أن نقول ما هو القانون البديل الذي نريد) ولا للتفكير، مجرد التفكير بحكم عسكري بذريعة مكافحة الفساد، أو بمجرد تخيل نسخة لبنانية من طاغية يتفاخر البعض كيف أنه حوّل فندقاً إلى معتقل للتعذيب لأنه كان بحاجة لسيولة بقيمة مائة مليار دولار. 
هذا في ما لا يريده المنتفضون اللبنانيون أو فئة كبيرة منهم. وقبل معرفة ما الذي يريدونه بدل هذا النظام الذي يرفضون بقاءه، أمكن التوقف عند "لا" أساسية، فات ذكرها في لائحة اللاءات أعلاه: إنها "لا" قد تكون مقلقة، كما قد تكون طبيعية في حال كانت جزءاً من ردة الفعل الغاضبة على كل شيء، على كل ما يمت بصلة لما يتخيله اللبنانيون عن سلطتهم: إنها الـ"لا للأحزاب، ولا للسياسة"، حتى أنها صارت ترد على ألسنة وفي كتابات نخب محترمة فعلاً وتنتمي للانتفاضة من دون تردد. المطمئن في الموضوع أن هذه الـ"لا للأحزاب ولا للسياسة" هي استعارة لفظية للإشارة إلى "لا لهذه الأحزاب" التي نعرفها تحديداً، و"لا لهذه السياسة" بمفهومها التافه والفاسد الماثل أمامنا في الحالة اللبنانية. أي تفسير آخر غير ذلك المقترح هنا، سيكون مصدر قلق ندرك مدى خطره فور التفكير بفداحة ما تعنيه العبارة. فالبديل عن الحزب يبقى الطائفة والقبيلة والعائلة والوراثة والحكم العسكري أو الشعبويات والديماغوجيات، أو خلطة تجمع ما بين هذه كلها. والبديل عن السياسة هي الفتاوى الدينية وصكوك الغفران أو استعارة محاكم التفتيش من القرون الوسطى. أصلاً أليست السياسة هي كل شيء حرفياً؟ أليست هي التي تنظم الهندسة والعمران والارتقاء الاجتماعي والكهرباء والبيئة والحقوق والرفاه والصحة العامة، حتى قبل أن تحدد أشكال العلاقات الاجتماعية والنظرة إلى الذات وإلى الخارج؟ ماذا عن الأحزاب؟ هل من يصرخ لا للأحزاب يعتقد أن حركة أمل حزب مثلاً، أو تيار المستقبل حزب، أو عشيرة ميشال عون وجبران باسيل حزب يليق بحمل هذا الاسم لكي يعمم ما يراه عند هؤلاء على فكرة الحزب كجسم جماعي يسعى إلى الوصول للسلطة لتطبيق رؤيته لشكل الحكم والعلاقات بين البشر؟
هذا الذي يفعله المنتفضون في شوارع لبنان هو ذروة السياسة، والشتائم التي تتصدر شعاراتهم هي فعل سياسي حقيقي يليق بالمشتوم شخصاً أو نظاماً، وسيكون صعباً تحقيق الكثير مستقبلاً من دون أحزاب جديدة وحقيقية، لا منظمات "أن جي أوز" تتخذ لنفسها أسماء أحزاب.
أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري