في براءة كتاب

في براءة كتاب

19 نوفمبر 2019
+ الخط -
أصاب الباحث والأكاديمي، شفيق الغبرا، في إيضاحه، قبل أيام، بشأن القضية التي رفعت في الكويت على كتابه "النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، إنها المرة الأولى التي تحولت فيها قضيةٌ سلبيةٌ بحق كتاب وباحث إلى قضية إيجابية لصالح المعرفة والبحث. ذلك أن النائب العام لم يكتف بحفظ الشكوى ضد الكتاب، وإنما أصدر قراره هذا في 41 صفحة أحاطت بمختلف جوانب القضية، بما فيها وجهة نظر الذين خاصموا الكتاب. وانتهى النائب العام إلى أن "الكتاب عمل علمي بحثي، وأن الباحث الذي التزم أصول المنهج العلمي واستخدم المصادر والمقابلات لا يتحمّل مسؤولية نقل كل ما جمع من معلومات، وأنه لهذا لا يُقاضى ولا يحاكم". وبذلك جاء القرار انتصارا للبحث العلمي، وأصاب الصديق شفيق الغبرا ثانيةً لمّا اعتبر قرار النائب العام إنصافا لكل الباحثين في جامعة الكويت ومؤسساتها، ممن يخشون التعرّض للقضايا الجدّية والمسائل الأعمق المثيرة للجدل والنقاش. والمأمول، بعد هذه القضية المفتعلة، أن يرعوي المولعون بالتربص للكتاب والباحثين والأدباء في الكويت، ويتوسّلون المحاكم والدعاوى القضائية لمنع مؤلفات فكرية وبحثية وأعمال أدبية لهؤلاء المثقفين من نخب الكويت المتعددة الميول والحساسيات، وذلك بدعوى أن أولئك يفترضون أنفسهم حرّاسا على قيم المجتمع وأعرافه، وعلى أمن البلاد من الفتن وأصحابها. 
وتذكّر المطالعة التي كتبها المحامي العام المستشار مبارك الرفاعي وصادق عليها النائب العام المستشار ضرار العسعوسي، وامتنعت عن إيذاء شفيق الغبرا ورمي كتابه بما ليس فيه، بالنص الرفيع المستوى الذي صدر عن المحكمة الإدارية في الكويت في العام 2018، ودافع عن رواية الكاتب الكويتي اللافت، سعود السنعوسي، "فئران أمي حصّة" (الدار العربية للعلوم – ناشرون، منشورات ضفاف، 2015)، بلغة نمت عن إدراك متقدم للأدب وطبيعته، وأحالت إلى الكيفيات التي ينبغي التعامل من خلالها مع النصوص الأدبية، مع انحيازٍ إلى حرية الإبداع التي لا تتطاول على قيم الأمة. وكانت تلك الوثيقة بمثابة إضاءة متقدّمة (وتقدّمية) على نص السنعوسي، يقف إلى حد كبير على مضامين هذا النص وترميزاته، من دون أي اعتبار للمنطوق الأجوف الذي سلّح به من خاصموا "فئران أمي حصة"، لمّا اتهموها بالدعوة إلى فتنة طائفية. ومن عجائب تلك القضية أن جهة الشكوى على تلك الرواية كانت وزارة الإعلام الكويتية التي من عجائب المفارقات وغرائبها أنها امتنعت عن تنفيذ قرار المحكمة الإدارية إلغاء منعها تداول الرواية (المنشورة في الإنترنت!)، قبل أن تستجيب لاحقا لتأييد حكم محكمة الاستئناف الإداري ذلك القرار.
صار ذائعا أن شكوى بعض من قرأوا كتاب الغبرا متعجّلين اختصت بفقرات مجتزأة عن سياق عريض عن وقائع جرت في أثناء الغزو العراقي للكويت صيف العام 1990. ولكن الباحث ما جاء على أي واقعةٍ أو معلومة إلا ونسبها إلى مصدرها، قبل أن يربطها بمجمل ما يكتب، وذلك من ألف باء العمل الأكاديمي والبحثي. والظاهر أن أمثال هؤلاء الشاكين المتعجّلين في الكويت أكثر عددا مما في بلدان عربية أخرى، بدلالة أن أربعة آلاف كتاب صدرت قراراتٌ بمنعها في الكويت في خمس سنوات، على ما قال كتاب وناشطون نظّموا فعاليات احتجاج ضد هذا الحال الغريب في بلدٍ يعد من الدول العربية التي حظيت بمقادير طيبةٍ من حرية الانتقاد والتعبير، ومن الأداء البرلماني المثير للإعجاب في محطّات سابقة. وإذا كان هذا الانشغال بتصيّد الكتب والنصوص الإبداعية قد زاد عن حدود المحتمل في الكويت يعود إلى ما صار للتيار الإسلامي من قوةٍ في هذا البلد، سيما التقليدي السلفي منه، فذلك لا يغيّب أن ذوي أهواء ونزوعات شديدة الضيق، ومتعصّبة إلى حد ما، يتزايدون في الكويت العروبية التي لطالما بقيت من عناوين الانفتاح في الخريطة العربية إياها، دلّ على ذلك أن ذوي غرضٍ راحوا يرمون شفيق الغبرا بأصله وفصله، وهو الذي لا يحتاج انتسابُه إلى الكويت وأفقها الثقافي العربي العام إلى نقاشٍ كثير.. ومما يبعث على الاطمئنان أن القضاء وأهله في هذا البلد يحمي البحث العلمي والتفكير النقدي وحرية الدرس والإبداع، بل إن من ناس هذا القضاء من يعلّمون غيرهم في مسألة الحريات ومظانّها، كما أكّدت هذا مجدّدا مرافعة الـ41 صفحة في تبرئة "النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت".
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.