عن أبعاد اغتيال بهاء أبو العطا

عن أبعاد اغتيال بهاء أبو العطا

18 نوفمبر 2019

بهاء أبو العطا في غزة (27/9/2018/فرانس برس)

+ الخط -
حملة تحريض إسرائيلية واسعة سبقت اغتيال القائد العسكري في حركة الجهاد الإسلامي، بهاء أبو العطا، ليصبح اغتياله مطلبا إسرائيليا، وليتحول تنفيذ الجريمة لاحقا إنجازا، واختراقا لبيئة المقاومة الفلسطينية، سواء في إعادة قوة الردع المفقودة، أو محاولة اختراق منظومة المقاومة الفلسطينية.
لم تتوقف إسرائيل عن انتهاج سياسة الاغتيالات، على الرغم من كشف الدراسات الإسرائيلية فشل هذه السياسة في تحقيق الردع، عدا عن أن بعض عمليات الاغتيال جاءت بنتائج عكسية. وحين اغتالت إسرائيل الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، فتحي الشقاقي، في التسعينيات من القرن الماضي، كانت الحركة مجموعة خلايا بقليل من البنادق والأحزمة الناسفة، فيما أصبحت اليوم قوة تقصف إسرائيل بالصواريخ. ومقارنة حزب الله قبل اغتيال أمينه العام عباس الموسوي قبل ثلاثة عقود، وبعده، توضح أنه أصبح قوةً لا يُستهان بها.
اعتاد كثيرون على ربط القرارات الإسرائيلية بالسياسة الداخلية، انطلاقا من ادعاء وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، أنه لا توجد لإسرائيل سياسة خارجية، وربط إسرائيليون وعرب اغتيال أبو العطا بأزمة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، سواء القضائية، بالهروب من السجن إلى الحرب، ولإفشال رئيس تكتل أزرق أبيض، الجنرال بيني غانتس، في تشكيل حكومةٍ ضيقةٍ بدعم بعض مكونات القائمة العربية المشتركة. وعلى الرغم من وجود أسباب أكبر من أزمة نتنياهو، إلا أنه لا يمكن إغفال مساعي تشكيل حكومة ضيقة، تعتمد على بعض الأصوات العربية. وباغتيال بهاء أبو العطا، يكون نتنياهو قد أضعف احتمال تشكيل 
حكومة ضيقة معتمدة على الأصوات العربية، ونجح في إعادة تعريف العرب وممثليهم في الكنيست (البرلمان) على أنهم ضمن معسكر الأعداء، وليسوا جزءا من إسرائيل، وأضعف الأصوات الإسرائيلية والعربية التي دعمت المشروع، سواء اليهودية المستعدّة لكسر خطوط حمراء لإسقاط نتنياهو، أو العربية التي اعتقدت أنها قد تكون جزءا من القرار الإسرائيلي. وشكلت تصريحات غانتس الذي راهن عليه بعض العرب صفعةً لهم، حين قال إن نتنياهو أطلعه على قرار الاغتيال قبل تنفيذه، وأنه دعم القرار، ويؤيد توجيه ضربة عسكرية قوية للمقاومة في غزة، واغتيال قادتها. كما أن موقف القائمة المشتركة رفض الاغتيال، والعدوان على غزة أضعف الفكرة، مع العلم أن ثلاثة أعضاء كنيست من حزب التجمع العربي الديمقراطي يرفضون مبدئيا دعم قوائم صهيونية، ورفضوا التوصية لغانتس بتشكيل الحكومة.
تزامن اغتيال أبو العطا مع محاولة اغتيال القائد في الجهاد الإسلامي، أكرم العجوري، بقصف منزله في دمشق، ونجا منها فيما استشهد ابنه، لتربط ذلك بالبعد الإقليمي والصراع مع إيران، ومحورها لشرعنة اغتيالها في غزة. ويبدو أن إسرائيل نجحت فيه. وظهر في الردود العربية والدولية الباهتة، على الرغم من استشهاد العشرات، نصفهم من الأهالي، كعائلة السواركة في دير البلح، واستشهاد أفرادها الثمانية بالقصف الوحشي، وهم نيام. كما حدث مع اغتيال أبو العطا، حين تم قصف غرفة نومه فجرا، وأدّى إلى ارتقاء روح زوجته معه. وكشفت صحيفة هارتس أن الجيش الإسرائيلي قصف منزله من دون التحقق ممّن بداخله، وأن الناطق العسكري الإسرائيلي حاول اختلاق أكذوبة لاسم غير معروف، والادعاء بملكيته البيت. وجاءت بعض المواقف الدولية المنحازة لإسرائيل، كالرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي وصفه باليوم السيئ لسقوط صواريخ على إسرائيل الرائعة، وممثل الأمين العام للأمم المتحدة، نيكولاي ميلادينوف، الذي وصف الاغتيال والعدوان تصعيدا من فصيل فلسطيني، وإطلاقا عشوائيا للصواريخ لتقويض ما سماه تحسين الظروف الاقتصادية والحياتية في غزة، متجاهلا الاحتلال وسياساته وحصاره قطاع غزة، وتجاهل قرارات الأمم المتحدة التي يمثلها، والتي تحمل إسرائيل مسؤولية المعاناة. وردت السلطة الفلسطينية ببيانٍ انتقدت فيه انحياز ملادينوف لإسرائيل.
على الرغم من استشهاد عشرات الفلسطينيين، وعدم سقوط قتلى إسرائيليين في الجولة التي أطلقت عليها حركة الجهاد الإسلامي اسم صيحة الفجر، وسمتها إسرائيل الحزام الأسود، إلا أن الحركة استطاعت شل نصف إسرائيل، وإلزام ثلاثة ملايين إسرائيلي بالملاجئ، منهم مليون طالب، بإمطارها المنطقة التي يصل مداها إلى 80 كيلومترا بمئات الصواريخ، لتحويل سياسة الاغتيال من كنز إسرائيلي إلى عبء يدفع ثمنه ملايين الإسرائيليين.
وعلى الرغم من مساندة المجتمع اليهودي الحكومة لاغتيال أبو العطا، لأن موت الفلسطينيين يوحدهم، إلا أن كثيرين استهزأوا من ادعاء نتنياهو بأنه حقّق انتصارا على حركة الجهاد الإسلامي. وتساءل رئيس حزب إسرائيل بيتنا، أفيغدور ليبرمان، عن الانتصار الذي يتحدث نتنياهو عنه، وقد منعت حركة الجهاد الإسلامي التجوّل على نصف إسرائيل. وقال المحلل السياسي، أمنون أبراموفيتش، إنه إذا كان تنظيم صغير كهذه الحركة شل نصف الدولة، فكيف ستكون المواجهة الشاملة. وتساءل إسرائيليون عن جدوى الاغتيال، وإسرائيل عاجزة عن منع 
سقوط صواريخ الجهاد الإسلامي الذي يشير إلى فشل إسرائيل باستعادة قوة الردع، بعد اغتيالها أبو العطا، طالما استمرت الصواريخ، فيما حذر أليكس فيشمان في صحيفة يديعوت أحرونوت من أن الاغتيال ستترتب عليه تداعياتٌ وخيمةٌ على المدى البعيد. وحينها لن يكون نتنياهو لنحاكمه، وستضطر حركة الجهاد الإسلامي للبحث عن وسائل جديدة نوعية ومؤلمة، لتجعل إسرائيل تفكر كثيرا، ولتوصل رسالة إلى إسرائيل بأن ما قبل الاغتيال كان أفضل بكثير.
الأخطر في الاغتيال والعدوان الإسرائيليين كان التغيير الواضح في الخطاب الإسرائيلي تجاه حركة حماس، والذي اعتبره رئيس الاستخبارات العسكرية سابقا ورئيس معهد أبحاث الأمن القومي، عاموس يدلين، تغييرا استراتيجيا ومفاجئا، بعدم تحميل حركة حماس مسؤولية ما يحدث، في محاولة مكشوفة لتحييدها، والاستفراد بحركة الجهاد الإسلامي، واعتبار هيئات إسرائيلية حركة حماس العدو المسؤول المعني بالاستقرار. ومن الممكن التوصل إلى تفاهماتٍ معه، حتى ذهب بعضهم إلى المطالبة بإلغاء الوساطة المصرية. وفي المقابل، لعبت إسرائيل على الوتر الإقليمي، وزعمت أن "الجهاد الإسلامي" أداة إيرانية، لضرب الاستقرار وإفشال سلطة حركة حماس، حتى أن وزير الجيش الإسرائيلي الجديد المستوطن، نفتالي بينيت، شارك نتنياهو في إمكانية التوصل إلى تفاهمات طويلة مع "حماس"، وتقديم تسهيلات لقطاع غزة، على الرغم من أن نفتالي بينيت صاحب برنامج إسقاط حكومة حماس واغتيال كل قادتها، وهو صاحب شعار أن علاج الفلسطينيين بالاستئصال، وأن العرب صراصير، ومكانهم تحت الأحذية، على حد تعبيره العنصري الاستعلائي. ولكن هذا التغيير الواضح يفيد بأن إسرائيل اقتنعت باستحالة القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة، إلا بافتعال فتنة داخلية، على الرغم من تداعياتها السلبية على إسرائيل نفسها.
النقاش الحاد والكبير في الرأي العام الفلسطيني الذي رافق جريمة اغتيال بهاء أبو العطا وما تبعها والخطاب الإسرائيلي الجديد بشأن عدم مشاركة حركة حماس في المواجهة، وانقسم الرأي العام الفلسطيني بشأن موقف "حماس" بين مبرّر لتجنيب القطاع حربا مدمرة ومنتقد لها والادّعاء أنها تتمسّك بالسلطة على حساب المقاومة. وبغض النظر عن خلفيات مواقف "حماس"، إلا أن الرهان الإسرائيلي على استدراجها، وتخليها عن المقاومة، وملاحقة "الجهاد الإسلامي"، كما ذكر أكثر من مسؤول إسرائيلي، يبقى احتمالا ضعيفا. ومن المستحيل على 
"حماس" أن تقبل به، وأن تتخلى عن مشروعها وإرثها ورصيدها. وعلى الرغم من حاجتها للاستقرار في غزة، إلا أنها ستجد نفسها مستقبلا في مواجهةٍ كبيرةٍ مع إسرائيل، لتفشل الرهانات الإسرائيلية، لتنتهي الفرحة الإسرائيلية بتحييد "حماس" وضربها بحركة الجهاد الإسلامي، وأن تعيد الأمور إلى سياقها الطبيعي، لأن تجربة السلطة في الضفة الغربية تؤكد أن كلفة المواجهة مع إسرائيل أقل من كلفة الاتفاقيات والالتزامات مع إسرائيل، وخصوصا بعد خروج مظاهراتٍ عفويةٍ في أنحاء قطاع غزة، تطالب بالرد وقصف تل أبيب وترفض الهدنة. وهذا يؤكد فشل سياسات الحروب والحصار بضرب بيئة المقاومة، وكسر إرادة الفلسطيني الغزّي وتركيعه.
اغتيال أبو العطا وجولة العدوان أخيرا والنقاش الفلسطيني الدائر مفاعيل تمثل مدخلا لعملية تقييم جدّيةٍ لما حدث، بما فيها ذهاب حركة الجهاد الإسلامي وحدها إلى الاشتباك والتفاوض لوقف النار، لأن مصلحة إسرائيل تفكيك القضية الفلسطينية من قضية شعب إلى قضية فصائل ومناطق وقبائل، وموقف "حماس" في البداية لكي يتم إفشال المخطط الإسرائيلي. وبالفعل بدأت اتصالات بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي لقطع الطريق على إسرائيل، ولاستخلاص العبر للوصول إلى استراتيجية وطنية شاملة.