نخب واحد

نخب واحد

17 نوفمبر 2019

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -
تتعدّد مدارس القمع العربية بتعدد أقطارها. ذلك مفهوم ومعلوم عبر تجارب السوط المريرة، غير أن ما يستوقف المراقب المسكون بالقمع من أمثالي هو ذلك التنافر العجيب بين مدرستين اثنتين، من المفترض أن تكونا متطابقتين أساسًا في نهج تعاملهما مع المعارضين، استنادًا إلى تجاورهما الجغرافي، من جهة، وإلى تطابق سياساتهما القائمة على حكم العائلة والقبيلة، من جهة أخرى.
أتحدث هنا عن السعودية والبحرين، الجارتين جغرافيًّا، الملكيّتين حكمًا، الحليفتين عسكريًّا وسياسيًّا، بحكم العلاقة بين التابع والمتبوع، لكن المختلفتين في طرق قمع المعارضين، فالأولى تمارس سياسة الجلب والأخرى سياسة الطرد.
تقوم السياسة الرسمية للسعودية، والمعلنة على أزيد من لسان رسميّ، على عدم السماح لمعارضيها بمغادرة الحظيرة، من خلال المنع من تجاوز حدود البلد، والسعي، بشتى الوسائل، إلى إعادة الفارّين من "قفا العدالة" إلى حظيرتها بأي وسيلةٍ ممكنة، بالترغيب والترهيب، أو بـ"النشر والتقطيع" إن لزم الأمر.
في المقابل، نهجت البحرين سلوكًا مضادًّا عمادُه طرد المعارضين خارج الحظيرة ونفيهم، وتجريدهم من جنسياتهم وحقوقهم المدنية. هذا بعد أن تعدم سائر وسائل القمع الأخرى في إخضاعهم لشروط الحظيرة.. فلماذا كان هذا التضارب بين الجارتين، على الرغم من كل التبعيّة التي تحكم علاقة الصغرى بالكبرى، ولماذا لم تتبادلا النصائح في هذا الشأن، كما تتبادلان الزنازين والخبرات الأمنية وقنابل الغاز المسيل للدموع؟
أدري أن "لكل شيخ طريقة"، غير أن تفسير المسلكيْن في تضارب الشيخين ربما كان مفيدًا لإعداد رسالة دكتوراه تنفع الدارسين في فنون القمع العربية، واختيار الأصلح بينهما لفائدة أنظمةٍ أخرى ما تزال تتلمّس الوسيلة الأنجع في قطع دابر المعارضين، واستئصال شأفتهم. فأيهما الأجدى: الجلب أم الطرد؟ ربّ مجيب إن الجلب أنفع، كي يتلافى النظام "صداع الخارج" الناجم عن "ثرثرات المعارضين" وإزعاجاتهم على وسائل الإعلام الأجنبية، وكشف عوراتهم على الملأ. وفي هذه الحالة، سيضمن النظام إخراس تلك الألسنة داخل الحظيرة نفسها، و"يا دار ما دخلك شر"، وهو الأسلوب الذي نهجته السعودية منذ زمن بعيد، ودفعت، لقاء جلب المعارضين وخطفهم من الخارج، ملايين الريالات، على غرار ما فعلته سابقًا مع ناصر السعيد الذي اختطف من لبنان بتواطؤ مع "مناضلين" من حركة فتح، وسلّم إلى المخابرات السعودية، ثم أعدم، حين عجزت أجهزة القمع عن إخضاعه وإعادته إلى "الحظيرة". وهو أيضًا مع ما حدث مع المغدور جمال خاشقجي الذي تقول رواياتٌ إنه أعيد إلى بلده "منشورًا".
في المقابل، لا يضير البحرين، من بعيد فقط، أن يثرثر معارضوها الذين طردتهم بنفسها خارج الحظيرة على وسائل الإعلام أو غيرها، بل كل ما يعنيها فقط أن تتخلّص من صداعها الداخلي الذي يتسبب به هؤلاء "المزعجون"، أما "عوراتها" المفضوحة على الملأ، فذلك آخر همّها.
ربما علينا أن نسأل، في هذا المقام، المعارضين من كلا البلدين أنفسهم؛ لأنهم الأقدر على تحديد الإجابة ووصف تجاربهم المريرة مع جدليّة "الجلب" و"الطرد". وفي هذه الحالة، أرجّح أن تكون مشاعر أبناء المدرستين متضاربة، أيضًا، في بعض خلاصاتها النهائية، على الرغم من توحّد المنفى لكليهما، فالأول اختار المنفى طواعيّة، هربًا من القمع، والآخر طرد إلى المنفى قسرًا، على اعتبار أن المنفى هو "أعلى مراتب القمع"، وفق المدرسة الأمنيّة التي طردته. اعتبرت المدرسة الأولى المنفى هروبًا من السجن، والأخرى رأت فيه زجًّا في السجن. وفي هذه الحالة، قد يلتقي أبناء المدرستين في مطارات الوصول، وجهًا لوجه، على الرغم من أنهما وجهان لقمعٍ واحد.. الأول مخضوض الأوصال يتلفت خلفه مخافة "الجلب"، والآخر متيبّس العنق باتجاه الأمام فقط مخافة "الطرد".
وفي الحالين، تتحد مشاعر الهارب والمطرود؛ وإن اختلفت المسمّيات، مثلما تتحد كؤوس "الشيخين" أيضًا في نخبٍ واحد، بعد أن تخلص كلاهما من صداعهما الخارجي والداخلي معًا.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.