التحالف الموضوعي

التحالف الموضوعي

17 نوفمبر 2019

(Getty)

+ الخط -
نسمع بشكل متزايد عن مفهوم "الحلف الموضوعي" بين مجموعاتٍ أو أفراد يمكن أن تتناقض مواقفهم الفكرية أو أن يكون بينهم ما صنعه الحداد من خلافاتٍ وتباعداتٍ نظرية. وتفيد المراجع بأن أصل المفهوم قد وصل إلينا من نظرية الألعاب، والتي تعتبر بأن الفرد "أ" هو حليف موضوعي للفرد "ب"، إن كان لدى "أ" المصلحة في أن يُساعد "ب"، بوجود تقاربٍ شخصي أو عملي بين الفردين، أو على الرغم من انعدام هذا التقارب. وعلى سبيل المثال السياسي، يعتبر حقل العملية الانتخابية هو الملعب المفضل لتكوّن الأحلاف الموضوعية، على الرغم من التباعد الظاهر لمواقف القوى المتقاربة. كما يتميّز الحلف الموضوعي بعدم رغبة أيٍّ من أطرافه في إعلان وقوعه أو تبرير حصوله. وكثيرا ما تحاول أطرافه نفي حصوله شكلاً ومضموناً، ليصل بها الأمر إلى اتهام من يتطرّق اليه بتبنّي نظرية المؤامرة الممقوتة علمياً وجيوـ سياسياً. 
من التحالفات الموضوعية الأبرز في الساحة العربية تحالف الاستبداد السياسي مع التطرّف الديني الذي يصل إلى مرحلة ممارسة الإرهاب. وكما امتلأت الأدبيات السياسية في الحديث عن نشوء الحلف بين الحكم العسكري في مصر والإرهاب الداعشي في سيناء، وتطور هذا التحالف ومآلاته، فوجود أحدهما هو مبرّر كاف لوجود الآخر، وتعرّض أحدهما للغياب يمكن أن يؤثر سلباً على بقاء الآخر. ومع تطور الثورات المضادة في الساحة العربية، تبيّن، بوضوح، إلا لمن لا يرغب لغايةٍ في نفس يعقوب، بأن الإرهاب كان السند الوفي للاستبداد الذي يبرّر وجوده وتفاقم العنف في ممارساته بالاستناد إلى نمو هذا الإرهاب. وفي المقابل، يسعد الإرهابيون في اعتبار أن وحشية هؤلاء وعنفهم مرتبط باستمرار أداء المستبد الذي لا يُصيبهم مباشرة، بل غالباً ما يُصيب الناس الباحثة عن قوتها وعن حريتها. هذا النوع الأخير من الناس هو عدو مشتركٌ للمستبد وللإرهابي.
في الأسابيع القليلة الماضية، ومع اشتداد النقاش الإعلامي والسياسي في مسألة الإسلام في فرنسا، انطلاقاً من مسألة حجاب المرأة المفروض أو المُختار، برزت مجموعة متناقضة من الحلفاء
 الموضوعيين الحقيقيين والمتخيلين، فقد دعت المنظمات الإسلامية، وهي متعدّدة، ولا تنسيق إلا نادراً فيما بينها، كما الجمعيات الحقوقية الفرنسية، كما بعض أحزاب اليسار والتكتلات النقابية، إلى مظاهرةٍ موحّدة للتنديد بالرهاب من الإسلام، وهو ظاهرة تتمدّد وتتفاقم في الخطاب وفي الممارسة. وقد تجسّدت الظاهرة، في الآونة الأخيرة، بالحملة الشرسة فعلاً إعلامياً وسياسياً على مسألة حجاب المرأة، والتي ربطها حصرياً مثيروها على أنها جزء من مسار الخضوع لتعاليم دينيةٍ لا نقاش فيها، وحيث لا يمكن لصاحبة الشأن أن تعارضها. وبالتالي، هي جزء من المقدسات المفروضة على المسلمات والمسلمين، والتي تمنع عنهم حرية العقيدة، وهي جزء "مقدّس" من قوانين الجمهورية الفرنسية. ويرفض القائمون على هذه الحملة، وهم مزيجٌ لا تجانس أيديولوجياً لدى مكوناته إلا العداء لما يسمّونه "تطرّفاً" إسلامياً، وما يبدو حقيقةً أنه عداءٌ لدين بحد ذاته.
وكما يؤكد عليه آلان غريش، الصحافي الفرنسي المعروف، فإن تمسّك بعض أطراف اليمين حالياً بمسألة العلمانية، وضرورة الالتزام بها حجّة لممارسة النقد الدائم والمتنامي للمسلمين في فرنسا، ليس هو إلا غطاءً علمانياً لموقف ديني يعتبر أن الإسلام يُهدّد الهوية المسيحية لدى الأغلبية، أو، وحتى يكون الأمر أكثر قبولاً، هو يهدّد الثقافة اليهودية ـ المسيحية، كما يُعرّف بعضهم الثقافة السائدة في أوروبا، فكما هو معروف تاريخياً، لم تكن أحزاب اليمين هي صاحبة الدعوة إلى إقرار قانون 1905 المحدّد لعلمانية الدولة الفرنسية، والذي ركّز أساساً على "المدرسة الجمهورية" التي تبتعد عن أية انتماءات دينية لأي دينٍ كان. وللعارفين بالتاريخ الحديث لفرنسا، يبدو واضحاً الدور الرئيسي لقوى اليسار حينذاك، ولمفكري الأحزاب اليسارية، في صوغ النصوص التي تحدّد محتوى هذه المفاهيم. وحينها، كان الدين المسيحي هو المقصود أساساً، حيث لم يكن للمسلمين وجود فعلي إلا في المستعمرات التي تعاملت معها الدولة المركزية بوصفها قوة محتلة، لا تخضع لقوانين "الجمهورية".
إضافة إلى الهجوم على مسألة الحجاب، والتي اعتبر مراقبون موضوعيون كثيرون أنها كانت 
وسيلة ناجحة لحرف الأنظار عن المشكلات البنيوية المهمة التي تضرب بمختلف قطاعات المجتمع الفرنسي من بطالة إلى الخلل في المنظومة الصحية إلى تراجع العملية التربوية، برزت أصوات أتيحت لها منابر إعلامية واسعة، وصدرت عنها عبارات خارجة عن المألوف، وحتى عن القانون، بالتحريض على مجموع المسلمين، واعتبارهم جميعا إرهابيين، بالاستناد إلى قراءة منحرفة للنص الديني، يُراد منها تهييج الرأي العام.
من جهة أخرى، فرح المتطرّفون بهذا "الاحتفاء" العام بهم في المشهد الفرنسي، وبدأوا في استثمار الرعب الحقيقي الذي أدت إليه اعتداءات إعلامية وأمنية عديدة تجاه المسلمين، لجذب بعضهم وبعضهّن كضحايا يمكن لهم الالتجاء إلى التطرّف والكراهية للآخر الظالم، والتوجه أكثر فأكثر نحو الإقصاء الذاتي الذي تترتب عليه نتائج وخيمة. العلمانيون المتطرفون هم حلفاء موضوعيون للمتطرّفين الدينيين. والتجربة خير برهان.