في معنى الربيع العربي

في معنى الربيع العربي

16 نوفمبر 2019
+ الخط -
تؤكد حركات التمرّد الشعبي الراهنة في العالم العربي سمة الواقع السياسي العربي التي كشفها المد الثوري، وتلخصها حقيقة لا مجال لإنكارها بعد، أن التنافي المتبادل بين السلطة الحاكمة ومجتمعاتها بلغ حد القطيعة النهائية التي تجعل تعايش الشعوب ونظم الحكم ضربا من الاستحالة، في ظل معادلةٍ فرضتها النظم طوال نصف قرن، جعلت حضورها ممكنا ما دامت قادرةً على تغييب مجتمعاتها وإلغائها. وبالعكس، ستزول هي بمجرد عودة مجتمعاتها إلى دورها السياسي. وواضح أن ثورات الربيع العربي، وهي التعبير اليومي عن عودة السياسة إلى المجتمعات، قد أسقطت ما سوّغ معادلة النظم من أدلجة وأكاذيب وشعارات قومية وعنتريات صمودية، ووعود تحريرية، وأوهام تنموية، واستبدلتها بمعادلةٍ حاملها المواطن العادي، غير المنظم أو المسيس، والعابر جميع فئات مجتمعه، جوهرها استعادة وطنه، كاملا غير منقوص، من النظام القائم. 
مع الربيع العربي، تبنّت الشعوب نهج أهل النظام الذي قال: لا مكان لنا ولهم معا، إما نحن أو هم. لذلك صدحت حناجر صبايا الثورة وشبانها بالقول "كلن يعني كلن"، ويعني "نحن لا هم"، ولن نقبل بوجود أي واحد منهم بيننا، لأن هذا الواحد سيكون نقيضنا وسيلغي وجودُه وجودنا. وبما أننا لن نسلمهم إرادتنا وكرامتنا بعد الآن، ولن نبقى خدما لا حقوق ولا وطن لهم، فإن زمن رحيلهم قد حان: في الجزائر، حيث هم "عصابة"، وفي العراق "عملاء فاسدون"، وفي لبنان، الفساد بذاته ولا يُستثنى أحد منهم.
هذا التنافي المتبادل الذي مارسته السلطة إلى البارحة ضد مجتمعها، ويتبنّاه المجتمع من الثورة فصاعدا في مواجهتها، يفضح حجم تطابق نظم عربية في الفساد والإجرام، وحجم انكشافها الذي يثير أقصى الغضب والرفض لدى المجتمعات العربية في كل أرض ومصر. ولذلك ينضم إليه مواطنون من مختلف الأعمار والفئات. وحّدهم الغضب، فنزلوا إلى الشوارع كتلة صلدة مصممة على تقديم أعز التضحيات لاقتلاع نظم العنف والفساد، ما دام فشلهم لا يعني مجرد إخفاقٍ أصاب حركة سياسية، بل يتخطّى ذلك إلى نفي وجودهم ذاته، كما تخبرهم التجربة السورية، حيث انتقلت الأسدية من إلغاء الشعب سياسيا إلى إبادته جسديا. ولكن صمود المواطنين الأحرار وتضحياتهم يُفشلان سعيه، ويضعانه أمام تحدٍّ لا يمكنه تجاوزه، هو رد السوريين إلى ما قبل ثورتهم في 15 مارس/ آذار عام 2011، على الرغم مما تلقاه من دعم دولة عظمى وأخرى إقليمية وعشرات تنظيمات الإرهاب من لبنان والعراق وأفغانستان.. إلخ، وموقف واشنطن الممتنع عن دعمه، والمراهن على الفوضى.
بالثورة، أعلنت شعوب الربيع العربي القطع مع زمن الذل والموت السياسي، وبدء زمن الحرية والكرامة، وأسقطت أكذوبة السلطة القوية والمجتمع الضعيف، وأثبتت بتضحياتها وبطولاتها كم راكمت من قوة، وتحرّرت من هشاشةٍ بدت إلى حين من الزمن أنها لن تبارحها، لكنها ثارت وأعادت لإرادتها مكانها في تاريخٍ كاد ينساها، ولن يتمكّن أي نظام من القفز عنها بعد اليوم.
تواصل الشعوب العربية ثورتها بشعارات ومطالب وهتافات تشبه ما كانت الثورة السورية قد أبدعته، وتهتف الملايين لها وتحمل علمها، اعترافا بدور صمودها الأسطوري في بعث الأمل بانتصارها، والثقة في قدرتها على مواجهة طغاتها، وانتزاع أوطانها منهم، لإعادة تأثيثها أوطانا نظيفة تليق بشعوب حرّة، وحّدتها الآلام خلال نصف قرن، ويحرّرها في أيامنا من قرّروا العيش في نعيم العدالة والمساواة، وما تتوق نفوسهم إليه من كرامة، أدركوا أن نيلها محال من دون كنس نظم الفساد والاستبداد، والقضاء الناجز عليها، تطبيقا لمعادلة الثورة التي تجعل عودة الشعب إلى الحياة تعني هلاك المستبدّين والتخلص من نظمهم.
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.