هل انجلى "ضباب" العلاقات التركية الأميركية؟

هل انجلى "ضباب" العلاقات التركية الأميركية؟

15 نوفمبر 2019
+ الخط -
استخدم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مفردة ضباب لوصف الحالة الراهنة في مسار العلاقات التركية الأميركية، وهو في طريقه إلى واشنطن للقاء نظيره الأميركي، دونالد ترامب، في الظروف الصعبة التي تمرّ بها العلاقات بين بلديهما. وتحدّث أيضا عن حالة "الوجع" التي تمر بها هذه العلاقات أيضا. وفي طريق عودته، سيكون السؤال: هل نجحت العلاقات الشخصية "الممتازة" بين الرئيسين في تبديد الضباب، وتسكين الوجع وإزالة حالة الاحتقان القائمة بين أردوغان ومراكز القرار والمؤسسات الأميركية العديدة الفاعلة، مثل الكونغرس ووزارة الدفاع (البنتاغون) وكبريات المؤسسات الإعلامية أم لا؟ 
مشكلة أنقرة في الولايات المتحدة ليست مع مجلسي الشيوخ والنواب فقط، بل مع اللوبيات الفاعلة والمؤثرة، مثل الإسرائيلية والأرمنية واليونانية والكردية، وبعض الدول العربية التي توحدت ضد السياسات التركية الإقليمية في مواجهة قلة من مناصري المواقف التركية. وهدف زيارة الرئيس أردوغان واشنطن، قبل أن يكون العمل على تحسين العلاقات وفتح صفحة جديدة من الحوار، كان وقف النزيف والبحث عن طريقة تجنب الطرفين مزيدا من الخسائر والأضرار. لم تقدم أنقرة أي شيء، ولم تحصل على أي شيء كما يبدو. وكذلك واشنطن أيضا. اقتراحات ووعود وعروض متبادلة لا غير، بانتظار تطورات ميدانية وسياسية جديدة، إسقاط ترامب مثلا.
يشيد الرئيس ترامب بدور صديقه أردوغان وجهوده في الحرب على التنظيمات الإرهابية، 
وبالصداقة القديمة بين البلدين، وأهمية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ويلوح بورقة المئة مليار دولار التي تنتظر تركيا في علاقات تجارية أوسع، لكنه يتخذ قرارت ويعلن مواقف تتعارض مع مصالح أنقرة وما تقوله وتريده. يتحدث أردوغان، من ناحيته، عن استعداد بلاده لفتح صفحة جديدة من العلاقات، لكنه يقول إنه قدم وثائق جديدة تدين مجموعة المنشق فتح الله غولن وكوادر الكيان الموازي، وتتطلب إعادة تسليمهم لأنقرة، وأن هناك في واشنطن من يخلط بين الأكراد وعناصر إرهابية تهدد الأمن القومي التركي، وأن موضوع صفقة الصواريخ الروسية انتهى، فعلى الإدارة الأميركية أن تبحث عن عرض جديد، وأنه أعاد الرسالتين الأخيرتين اللتين وجههما إليه ترامب، بأسلوبٍ لا يتفق مع روح الصداقة والمعايير الدبلوماسية واللغة التهديدية التي تضمنتهما.
كان القاسم المشترك الوحيد في التفاهمات ربما الاتحاد ضد أوروبا التي تتحرّك باستقلالية أوسع ضد أميركا، وبعيدا عن تركيا، في هذه الآونة. ومطالبة العواصم الأوروبية أن تتعاون معهما إذا ما كانت راغبة حقا في مواجهة التنظيمات الإرهابية، ومعالجة مشكلة اللجوء. وقد تحدث أردوغان عن 40 مليار دولار أنفقتها بلاده على السوريين الوافدين، وعن مساعدات أوروبية لا قيمة لها، وهو ما أعلن ترامب عن تأييده وقبوله، فهل يكون ذلك مقدمة لتفاهم تركي أميركي لتسريع خطة المنطقة الآمنة؟
الخدمة الأهم التي قدمها ترامب للرئيس التركي كانت تسهيل لقائه بمجموعة من صقور السياسة في الكونغرس من الجمهوريين لتبادل الآراء، فهل يكفي ذلك لإقناع مجلس المندوبين بالتراجع عن قراراته وتوصياته؟ ألا يتطلب ذلك خطوة تركية أيضا باتجاه التمسّك بتضييق الخناق على مصالح أميركا وحلفائها في شرق الفرات؟ ولماذا تبدّل واشنطن من مواقفها، وهي تستفيد من توتر علاقات تركيا مع لاعبين إقليميين عديدين يتسابقون نحو البيت الأبيض لدعمه في مواجهته مع أنقرة؟
لن تتخلى أميركا عن وحدات الحماية الكردية، وهي لا تحتاج إلى مزيد من الوثائق التركية التي تكشف عن علاقتها بحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة إرهابيا. هي تريد أكثر من ذلك، عدم المساس بالمصالح الإسرائيلية في سورية، والابتعاد التركي عن إيران، والتخلي عن العروض الروسية المغرية، والالتزام بالإيقاع الأميركي الإقليمي، كما كانت الأمور في السابق. الكونغرس الذي تذكّر الأرمن، من دون مناسبة هذه المرة، قادر على افتعال أكثر من أزمة. وتكرر أنقرة أنها قادرة على المواجهة، وليس الصمود فقط، فكيف وأين ومتى ستفعل ذلك إذا ما ذهبت الأمور نحو خط اللاعودة؟
الأنظمة الرئاسية وهيكليتها وطريقة عملها في أميركا وتركيا تختلف تماما عن بعضها بعضا. ولم يفعل ترامب شيئا لعرقلة قرارات الكونغرس أخيرا ضد تركيا، بل أطلق يدها تتحد وراء الدعوة 
إلى معاقبة أنقرة على سياساتها ومواقفها. في تركيا لا يوجد كونغرس ليرد. اتحد البرلمان التركي وراء عملية "نبع السلام" العسكرية في شمال سورية، لكنه لم يرد على رسالة ترامب، ولا على قرارات الدعوة إلى تصعيد مجلس النواب الأميركي ضد أنقرة، وترك أردوغان وحيدا في المواجهة، لأن حزب العدالة والتنمية (الحاكم) تجنب مخاطر طرح الموضوع هناك. المشكلة، في أحد جوانبها، ربما بنية النظام الرئاسي الجديد في تركيا وطريقة عمله وتقاسم الأدوار فيه. كان من المفترض أن يكون هناك جهاز شعبي حزبي يوازي، بدوره وثقله، الكونغرس ومؤسساته، ليقف إلى جانب أردوغان في هذه الظروف الصعبة، وهذا ما ستناقشه تركيا في المرحلة القصيرة المقبلة حتما.
قد يكون الموجع تجاهل ترامب الإجابة على السؤال ما إذا ما كان سيستقبل قائد قوات سورية الديمقراطية، الجنرال عبدي مظلوم، الذي وصفه أردوغان بالابن الروحي لزعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان. وقد جدّدت واشنطن تمسّكها بوحدات الحماية الشعبية (الكردية) شريكا لها في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فهي لن تفرّط بورقة هذا الحليف المحلي الذي يوفر لها الوجود العسكري والسياسي، ويجلسها فوق آبار النفط في شرق سورية وأمام أية طاولة حوار حول التسويات هناك.
كان السؤال، قبل أسابيع، ما إذا كان الرئيس أردوغان سيتراجع عن تلبية الزيارة إلى واشنطن بعد رسالة ترامب الموجعة في 9 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، لكنه قرّر الذهاب، ليقول ما عنده ويعيد إلى ترامب مكتوبه. صحيحٌ أنه كان يتحرّك ويناور في الجانب الأميركي من الملعب، لكن المشهد بدا وكأن أردوغان هو من كان في وضعية المدافع وليس المهاجم هناك، حيث أصر ترامب على الظهور وكأنه من يقود اللعبة، ويواصل الهجمات وتسديد الضربات، لتسجيل مزيد من الأهداف في المرمى التركي.
4A6988D0-57AB-4CAB-9A76-07167D860E54
سمير صالحة

كاتب وباحث تركي، أستاذ جامعي في لقانون الدولي العام والعلاقات الدولية، دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة باريس، له عدة مؤلفات.