العرب وجدار برلين

العرب وجدار برلين

15 نوفمبر 2019
+ الخط -
مرّت ثلاثون سنة على سقوط جدار برلين، وانتهاء الحرب الباردة بين الكتلتين، الغربية والشرقية. لم يعد العالم كما كان منذ تلك اللحظة، لكن: هل تغيّر العرب بالشكل الكافي الذي يستجيب لما صار العالم إليه في هذه العقود الثلاثة؟
ليس دقيقاً أن ننخرط هنا في بكائية تتلوّى على أحوال العرب، وانهيار آفاقهم الحضارية في ظل القطبية الأميركية الواحدة التي حصرت خيارات العرب، وضيّقت مساحات المناورة المتاحة لهم سياسياً، بل الأصح أن نضع خطاً فاصلاً بين ما آلت إليه أحوال الأنظمة السياسية وما تبدلت إليه أحوال الشعوب، فهما ليسا واحداً، وما ينطبق على طرفٍ منهما، لا ينسحب بالضرورة على الآخر، وهذه واحدةٌ من عجائب الدولة العربية المعاصرة!
إذا كانت الأنظمة ارتهنت أكثر، في ظل تلك القطبية الواحدة، إلى الإرادة الأميركية وسياساتها في المنطقة العربية، حتى راحت تتناغم مع رؤاها، بل وتردّد مصطلحاتها، كالفوضى الخلاقة، وخريطة الطريق، فإن الشعوب العربية انفتحت أمامها آفاق أرحب، مستفيدة من عولمة التواصل التي أتاحتها التكنولوجيا الحديثة، فتطوّرت معارفها، وتنوّعت قدراتها في التعبير أياً ما كانت القيود المفروضة على حرياتها، وليس غريباً أن قادها هذا إلى ما لم يكن متخيّلاً أيام الحرب الباردة: الثورة على الاستبداد التي قوّضت أنظمة متجذّرة في غير بلد عربي، تحت وقع خطى الثائرين وأصوات حناجرهم.
لم تبلغ الشعوب العربية مبتغاها بعد، في الحرية والتحرّر والنهوض، ولكن العقد الأخير من تلك الثلاثة التي تلت الحرب الباردة شقّ أمامها الطريق وعبّده، وها هي تنخرط اليوم في موجةٍ ثانيةٍ من الثورات، سواء في بلدانٍ لم تشهد الثورة من قبل أو في بلدان فشلت ثوراتها إلى حين، ولا ريب أن التاريخ لا يرجع إلى الوراء.
أزمة الخليج الثانية في العام 1990، مؤتمر مدريد للسلام مع "إسرائيل" في 1991، اتفاق
 أوسلو في 1993، انهيار برجي نيويورك وحرب أفغانستان في 2001 واحتلال العراق في 2003، هي أبرز الأحداث السياسية التي عمّقت فُرقة الأنظمة العربية بعد الحرب الباردة، وبدّدت كل أفق للتعاون المشترك بينها، بما في ذلك جانبه الاقتصادي، حتى انتهت جامعة الدول العربية إلى حالها الأشد بؤساً اليوم: مؤسسة فائضة عن الحاجة تماماً.
وهكذا، بينما انكشفت الأنظمة على حقيقة أنها لا تحمل خططاً مستقبلية؛ حضارية أو تنموية، وأنها إنما تكتفي بإدارة أزماتها وترحيلها طمعاً في التمسّك بالحكم، لمجرد الحكم، فقد أبصرت الشعوب مستقبلها وراحت تتلمس الخطى إليه. بل تجاوزت الشعوب العربية قسماً من أزماتها الثقافية العميقة: فقد تجاوزت التطرّف الديني والحركات الإرهابية التي نبتت على أطرافه، إذ انحسرت، في السنوات الأخيرة، موجة المد الديني بشكله المنظم سياسياً واجتماعياً، لصالح أهلية الفرد العربي، متديناً كان أو غير متدين. كذلك تترنح الطائفية هذه الأيام في ظل حس وطني جماعي آخذ بالتأجّج، وخصوصا في أكثر بلدين عربيين احترقا بنارها، وهما لبنان والعراق. كما فتح تعثر الثورات، أو نجاحها النسبي في تونس ومصر، الباب على مصراعيه لتطوير الآليات المدنية في هذين البلدين، فتجاوزت تونس خط الأمل إلى صناعته واقعاً مع نجاح الانتخابات الرئاسية والتشريعية أخيرا، فيما يبدو أن الشعب المصري تعلم درساً ممتازاً على الصعيد المدني، من تعثر ثورة يناير.
هل كانت الشعوب العربية ستنطلق في هذا الدرب الطويل، حتى لو لم يسقط جدار برلين؟ لقد قاد سقوط المعسكر الشرقي إلى تقويض الأيديولوجيات اليسارية في العالم العربي بشكلٍ لا تخطئه عين. لعل هذا ساهم أيضاً في ما أدركته الشعوب بعد عقدين آخرين، من حيث ضرورة التخلي عن الأيديولوجيات كلها، على الشكل الذي عبّرت عنه الانتخابات الرئاسية التونسية أخيرا، وفيها انفض الناس عن القوى الأيديولوجية كلها، وبدا أنهم أكثر اقتناعاً بقدرتهم على تحديد ما يريدون خارج الاختيارات التي يتيحها التنافس بين تلك القوى. كذلك ساهمت القطبية الواحدة التي عبّر عنها انهيار الجدار، في حشر الشعوب العربية عند زاوية الانفجار، ولا يزال مستقبلها مفتوحاً على احتمالاتٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ عديدة.
وعلى هذا، يمكن القول إن الشعوب العربية باتت من أكثر شعوب العالم استفادةً من سقوط جدار برلين، بعد الشعب الألماني، وشعوب أوروبا الشرقية.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.