أبعد من إيفـو موراليس

أبعد من إيفـو موراليس

14 نوفمبر 2019
+ الخط -
أعلن إيفو موراليس، يوم الأحد الماضي، تنحّيه عن السلطة بعد أربعة عشر عاما قضاها رئيسا لبوليفيـا، إثر اتساع رقعة الاحتجاجات التي أعقبت فوزه في انتخابات 20 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، والتي ترى المعارضةُ اليمينية أن خروقا كثيرةً شابتها. وعلى الرغم من أن موراليس أبدى استعداده لإجراء انتخابات جديدة، ودعا هذه المعارضة إلى الحوار، إلا أن تزايد الاحتقان في البلاد عجّل باستقالته، بعد أن تخلى الجيش عنه. 
ولعل أول ما يلفت الانتباه في الحدث البوليفي نجاحُ المعارضة في الانعراج بالأزمة السياسية الحالية نحو مساراتٍ تبدو فيها هذه الاحتجاجات وكأنها ضد الاستبداد والفساد وضرب القدرة الشرائية للفئات الفقيرة، كما هو الشأن بالنسبة للإكوادور وتشيلي. هذا النجاح يقابله افتقاد أحزاب اليسار في بوليفيا، وأميركا اللاتينية بوجه عام، القدرة على تجديد موارد التعبئة وتنويعها وفق متطلبات الصراع وميزان القوى الداخلي والإقليمي والدولي.
ارتكب موراليس الخطأ نفسه الذي ارتكبه الرئيس الفنزويلي الراحل، هوغو تشافيز، حين أخفق في مأسسة مشروعه الاجتماعي المنحاز للفئات المتوسطة والفقيرة والسكان الأصليين، فلم يعمل على إيجاد ديناميةٍ سياسيةٍ موازيةٍ تفتح أمام هذا المشروع باب الاستمرارية، من خلال جعله يحظى بدعم مختلف شرائح المجتمع البوليفي، ولم يستطع التخلص من الإرث السلطوي لليسار، بسعيه إلى إيجاد مخرج قانوني يُخوّله البقاء في السلطة لولاية رابعة، على الرغم من أن الدستور ينص على أن مدة ولاية الرئيس خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. فبدا أسير صورة الزعيم والمناضل اليساري الذي يُلهم المخيلة الشعبية للسكان الأصليين الحالمين بتوزيع عادل للأرض والثروة اللتين يستأثر بهما أعقابُ الغزاة الأوائل الذين يشكلون عصب اليمين المحافظ.
قد تعكس محاولة موراليس الالتفاف على الدستور لإعادة انتخابه وبقائه في السلطة رغبته في تعميق إصلاحاته، وتعزيز المكاسب الاجتماعية للفئات الفقيرة المساندة له، لكن استبعاده الديمقراطية، بما هي تداول على السلطة واحترامٌ للتعددية السياسية، وسّع هامشَ المناورة أمام هذا اليمين الذي نجح في تأليب قطاعاتٍ واسعةٍ من الرأي العام ضد نظامه، وحصرِه في زاوية ضيقة، وبالتالي تكريس انحسار ما تعرف بالموجة التقدمية في أميركا اللاتينية.
في السياق ذاته، أخفق موراليس في بلورة خطاب سياسي يُقنع القوى اليمينية، أو جزءا منها على الأقل، بالانخراط في ديناميةٍ جديدةٍ تنبني على التوافق وإعادة البناء الوطني وتجديد قواعد التدافع الاجتماعي. وربما بالغ موراليس، حسب بعضهم، في إظهار انتمائه الاجتماعي والثقافي والروحي للسكان الأصليين، الأمر الذي لم يكن يروق هذه القوى، ذات الجذور الأوروبية والرأسمالية في معظمها. وقد كان دالّا ما حدث داخل القصر الرئاسي بعد مغادرة موراليس، حين اقتحمه لويس فِرناندو كاماتشو، أحد قادة المعارضة، حاملا الإنجيل على العلم البوليفي، وصارخا: الباتشاماما (عقيدة تقديس الأرض) لن تعود أبدا إلى القصر، وبوليفيـا ستظل مسيحية!
نجحت هذه القوى في اجتذاب عدوى أحداث الإكوادور وتشيلي، وإعادة إنتاجها بصيغة مغايرة، مستغلة الاحتقان السائد في البلاد. ونجحت، أيضا، في جعل موراليس يبدو وكأنه يسعى إلى أن يتحول إلى صنم سياسي، الشيء الذي يبرّر، حسب هذه القوى، اتساع رقعة الاحتجاجات، وهو ما برز حتى قبل صدور بيان الجيش، حين أعلن ضباط أمن انشقاقهم وانضمامهم للمحتجين.
يُشكّل ما حدث في بوليفيا ضربةً موجعة للقوى اليسارية والتقدمية في بلدان أميركا اللاتينية، ويفتح المجال أمام اليمين البوليفي، المدعوم من قوى العولمة والرأسمالية المتوحشة العابرة للحدود، لإعادة ترتيب أوراقه، ما قد ينبئ بتجدّد مواجهات اجتماعية وسياسية ضارية بين قوى اليمين واليسار في هذه البلدان، تعيد إلى الأذهان الويلات التي عاشتها معظم شعوب هذه المنطقة، ودفعت ثمنها الأجيال السابقة من أرواحها وأمنها وحريتها.
تُثبت أحداث الإكوادور وتشيلي وبوليفيـا أن ثمّة رِدة سياسية واجتماعية في الأفق، فالجيوش تبدو وكأنها تحنّ إلى استعادة دورها العتيق في إعادة إنتاج جمهوريات الموز المعلومة، وتحصين مصالح اليمين، ما يسائل، بقوة، معظم تجارب التحوّل الديمقراطي التي شهدتها أميركا اللاتينية خلال العقود الثلاثة الأخيرة.